الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( كما أرسلنا ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده ، فإن قلنا : إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه راجع إلى قوله : ( ولأتم نعمتي عليكم ) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بإرسال الرسول .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن إبراهيم - عليه السلام - قال : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) [ البقرة : 129 ] ، وقال أيضا : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ) [ البقرة : 128 ] فكأنه تعالى قال : ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع ، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم ، كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته ، عن ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قول أبي مسلم الأصفهاني ، وهو أن التقدير : وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا ، أي كما أرسلنا فيكم رسولا من شأنه وصفته كذا وكذا ، فكذلك جعلناكم أمة وسطا ، وأما إن قلنا : إنه متعلق بما بعده ، فالتقدير : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين والشرع ، فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم ، وتقريره : إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتابا ، ولا تعلمون رسولا ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رجل منكم ليس بصاحب كتاب ، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء ، وفيه الخبر عن أحوالهم ، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد ، وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة ، والنهي عن أخلاق السفهاء ، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه ، فقال : كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا ، فاذكروني بالشكر عليها ، أذكركم برحمتي وثوابي ، والذي يؤكده قوله تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة ، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر ، فإن قيل : ( كما ) هل يجوز أن يكون جوابا ؟ قلنا : جوزه الفراء وجعل لـ ( اذكروني ) جوابين . أحدهما : ( كما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : ( أذكركم ) ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ، ولما سلف من نعمته ، قال القاضي : والوجه الأول أولى ؛ لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في وجه التشبيه قولان : إن قلنا : الكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة ؛ لأنه تعالى يفعل الأصلح ، وإن قلنا : إنه متعلق بقوله تعالى : ( فاذكروني ) دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ( ما ) في قوله : ( كما أرسلنا ) مصدرية كأنه قيل : كإرسالنا فيكم ، ويحتمل أن تكون كافة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فيكم ) فالمراد به العرب ، وكذلك قوله : ( منكم ) وفي إرساله فيهم ومنهم ، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير ، فبعثه الله تعالى من واسطتهم ؛ ليكونوا إلى القبول أقرب .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 130 ] أما قوله تعالى : ( يتلو عليكم آياتنا ) فاعلم أنه من أعظم النعم ؛ لأنه معجزة باقية ، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة ، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية