الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أن رجلا قال لحذيفة : صحبتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركتموه ، فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب ، وفي آخره : فجعلت أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان ، فجعل يضحك حتى جعلت أنظر في أنيابه .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنين ، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث ، ثم قاتل يوم الخندق ، وهو يوم الأحزاب وبني قريظة ، في شوال سنة أربع . وكذا قال عروة في حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه . كذا قالا : سنة أربع ، وقالا : في قصة الخندق إنها كانت بعد أحد بسنتين .

                                                                                      وقال قتادة من رواية شيبان عنه : كان يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين ، فهذا هو المقطوع به . وقول موسى وعروة إنها في سنة أربع وهم بين ، ويشبهه قول عبيد الله ، عن نافع عن ابن عمر : " عرضني [ ص: 499 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، فلما كان يوم الخندق عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني " فيحمل قوله على أنه كان قد شرع في أربع عشرة سنة ، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة ، وزاد عليها فلم يعد تلك الزيادة . والعرب تفعل هذا في عددها وتواريخها وأعمارها كثيرا ، فتارة يعتدون بالكسر ويعدونه سنة ، وتارة يسقطونه . وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضدوه بقول موسى بن عقبة وعروة أن الأحزاب في شوال سنة أربع ، وذلك مخالف لقول الجماعة ، ولما اعترف به موسى وعروة من أن بين أحد والخندق سنتين ، والله أعلم .

                                                                                      وقال أبو إسحاق الفزاري ، عن حميد ، عن أنس ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة باردة إلى الخندق ، والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق بأيديهم ، ولم يكن لهم عبيد : فلما رأى ما بهم من الجوع والنصب قال :


                                                                                      اللهم إن العيش عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره

                                                                                      فقالوا مجيبين له :


                                                                                      نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا أبدا

                                                                                      أخرجه البخاري . ولمسلم نحوه من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت .

                                                                                      وقال عبد الوارث : حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس نحوه ، وزاد ، قال : ويؤتون بمثل حفنتين شعيرا يصنع لهم بإهالة سنخة وهي [ ص: 500 ] بشعة في الحلق ، ولها ريح منكرة ، فتوضع بين يدي القوم . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال شعبة وغيره : حدثنا أبو إسحاق ، سمع البراء يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب ، وقد وارى التراب بياض إبطه وهو يقول :


                                                                                      اللهم لولا أنت ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
                                                                                      فأنزلن سكينة علينا     وثبت الأقدام إن لاقينا
                                                                                      إن الألى قد بغوا علينا     وإن أرادوا فتنة أبينا

                                                                                      رفع بها صوته
                                                                                      . أخرجه البخاري .

                                                                                      وعنده أيضا من وجه آخر : ويمد بها صوته .

                                                                                      وقال عبد الواحد بن أيمن المخزومي ، عن أبيه ، سمع جابرا يقول : كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدانة - وهي الجبل فقلنا : يا رسول الله إن كدانة قد عرضت فقال : رشوا عليها . ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا ثم ضرب ، فعادت كثيبا أهيل ، فقلت له : ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ، ففعل ، فقلت للمرأة : هل عندك من شيء ؟ وذكر نحو ما تقدم وما سقناه من مغازي ابن إسحاق . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال هوذة بن خليفة : حدثنا عوف الأعرابي ، عن ميمون بن [ ص: 501 ] أستاذ الزهراني ، قال : حدثني البراء بن عازب ، قال : لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها أخذ المعول وقال : بسم الله ، وضرب ضربة فكسر ثلثها . فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله . ثم ضرب الثانية وقطع ثلثا آخر فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض . ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله ، فقطع بقية الحجر فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة .

                                                                                      وقال الثوري : حدثنا ابن المنكدر ، سمعت جابرا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير : أنا . فقال : من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير : أنا . فقال : " إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال الحسن بن الحسن بن عطية العوفي : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ( 9 ) ) [ الأحزاب ] قال : كان ذلك يوم أبي سفيان ; يوم الأحزاب .

                                                                                      ( ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة ( 13 ) ) [ الأحزاب ] ، قال : هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .

                                                                                      قوله : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب ( 22 ) ) [ الأحزاب ] الآية ، قال : لأن [ ص: 502 ] الله قال لهم في سورة البقرة : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ( 214 ) ) [ البقرة ] ، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق ، تأول المؤمنون ذلك ، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما .

                                                                                      وقال حماد بن سلمة : أخبرنا حجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أن رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب ، فبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا ، فقال : لا خير في جسده ، ولا في ثمنه .

                                                                                      وقال الأصمعي : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، قال : ضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة بالسيف على مغفره فقده إلى القربوس ، فقالوا : ما أجود سيفك ، فغضب ، يريد أن العمل ليده لا لسيفه .

                                                                                      قال شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الأحزاب قاعدا على فرضة من فرض الخندق ، فقال صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غربت الشمس ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا ، أو بطونهم . أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، أن عمر يوم الخندق بعدما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش ، وقال : يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا والله ما صليتها بعد . فنزلت مع رسول الله ، أحسبه قال إلى بطحان ، فتوضأ للصلاة وتوضأنا ، فصلى العصر بعدما غربت [ ص: 503 ] الشمس ، ثم صلى المغرب . متفق عليه .

                                                                                      وقال جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : كنا عند حذيفة بن اليمان ، فقال رجل : لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت . فقال : أنت كنت تفعل ذاك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة ؟ فلم يجبه منا أحد ، ثم الثانية ، ثم الثالثة مثله . ثم قال : يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم . فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم . فقال ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي . قال : فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم ، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار . فوضعت سهمي في كبد قوسي وأردت أن أرميه ، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تذعرهم علي ، ولو رميته لأصبته . قال : فرجعت كأنما أمشي في حمام فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ، " فلم أزل نائما حتى الصبح ، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قم يا نومان " . أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال أبو نعيم : حدثنا يوسف بن عبد الله بن أبي بردة ، عن موسى بن أبي المختار ، عن بلال العبسي ، عن حذيفة : أن الناس تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا ، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جاث من البرد ، فقال : انطلق إلى عسكر الأحزاب . فقلت : والذي بعثك بالحق ما قمت إليك من البرد إلا حياء منك . قال : فانطلق يا ابن اليمان فلا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي . فانطلقت إلى عسكرهم ، فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله ، قد تفرق [ ص: 504 ] الأحزاب عنه ، حتى إذا جلست فيهم ، حس أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم ، فقال : يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه . قال : فضربت بيدي على الذي عن يميني فأخذت بيده ، ثم ضربت بيدي إلى الذي عن يساري فأخذت بيده . فكنت فيهم هنية . ثم قمت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي ، فأومأ إلي بيده أن : ادن ، فدنوت . ثم أومأ إلي فدنوت . حتى أسبل علي من الثوب الذي عليه وهو يصلي . فلما فرغ قال : ما الخبر ؟ قلت : تفرق الناس عن أبي سفيان ، فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار ، قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا ، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجو .

                                                                                      وقال عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبيد الحنفي ، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ، قال : ذكر حذيفة مشاهدهم ، فقال جلساؤه : أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا . فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك ، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب . وساق الحديث مطولا .

                                                                                      وقال إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا ابن أبي أوفى ، قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال : " اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم " . متفق عليه .

                                                                                      وقال الليث : حدثني المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، نصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده " . متفق عليه .

                                                                                      وقال إسرائيل وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن صرد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى عنه الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا [ ص: 505 ] يغزونا ; نسير إليهم " . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال خارجة بن مصعب ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ( 7 ) ) [ الممتحنة ] ، قال : تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أم المؤمنين ، وصار معاوية خال المؤمنين . كذا روى الكلبي وهو متروك .

                                                                                      وذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إلى إخوتهن ولا أخواتهن .

                                                                                      واستشهد يوم الأحزاب :

                                                                                      عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي ، تفرد ابن هشام بأنه شهد بدرا . وأنس بن أوس بن عتيك الأشهلي ، والطفيل بن النعمان بن خنساء ، وثعلبة بن غنمة ; كلاهما من بني جشم بن الخزرج .

                                                                                      وكعب بن زيد أحد بني النجار ، أصابه سهم غرب ، وقد شهد هؤلاء الثلاثة بدرا .

                                                                                      ذكر ابن إسحاق أن هؤلاء الخمسة قتلوا يوم الأحزاب .

                                                                                      وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : قتل من المشركين يوم الخندق : نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ; أقبل على فرس له ليوثبه الخندق ، فوقع في الخندق فقتله الله ، وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه . فرد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه خبيث الدية لعنه الله [ ص: 506 ] ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه ، ولا أرب لنا في ديته .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية