الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 341 ] إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا .

                          بين الله لنا في الآية التي قبل هذه الآية أن جهنم هي مصير من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ، وكلا هذين الأمرين كان يكون في زمن الرسول ظاهرا جليا بمثل ما فعل طعمة من ترك صحبة النبي والمؤمنين وموالاة أعدائهم من المشركين كما يظهر ذلك في عصره وغير عصره في كل من بلغته دعوته وتبين له الهدى فيها فتركها وعادى أهلها ووالى أعداءهم ، فإن مشاقة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاقة له ، ولكن وراء ذلك أنواعا من الكفر والضلال لا يصدق على كل واحد منها أنه مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين ، كما بينا ذلك في تفسير تلك الآية وقلنا : إن كل صنف من أصناف الضالين يوليه الله ما تولى ، ويوجهه إلى حيث توجه بكسبه واجتهاده ; لأن الله - تعالى - وكل أمر النوع الإنساني إلى نفسه ، إلا أن يختص من شاء من الناس برحمة من لدنه .

                          [ ص: 342 ] وبقي علينا أن نعرف ما يجوز أن يغفره الله - تعالى - للناس من أنواع ضلالهم وخطاياهم وما لا يغفره لهم ألبتة ، فإن هذا مما يحتاج إليه في هذا المقام فبينه - تعالى - بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقد تقدم هذا النص بعينه في سياق آخر من هذه السورة ، ولم يمنع ذلك من إعادته هنا ; لأن القرآن ليس قانونا ولا كتابا فنيا فيذكر المسألة مرة واحدة يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها ، وإنما هو كتاب هداية ومثاني يتلى لأجل الاعتبار والاستبصار تارة في الصلاة ، وتارة في غير الصلاة ، وإنما ترجى الهداية والعبرة بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يوجه النفوس إليها أو بعدها ويهيئها لقبولها ، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني ، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة في النفوس إلا بالتكرار ; ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم ، بل قال بعض علماء الاجتماع : إن نشر التجار للإعلانات التي يمدحون بها سلعهم وبضائعهم ويدلون الناس على الأماكن التي تباع فيها هو عمل بهذه القاعدة ، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء ولو من المتهم في مدحه لا بد أن يؤثر فيه .

                          وقال الأستاذ الإمام : تقدم صدر هذه الآية في هذه السورة وتتمتها هنا : ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ( 4 : 48 ) ، وقد تقدمها هنالك إثبات ضلال أهل الكتاب وتحريفهم ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزله الله على نبيه مصدقا لما معهم ، فقد بين لهم أن اتباع الرسول فيما جاء به والتسليم له درجات ، فمنها ما تغلب النفوس على مخالفته نزوات الشهوة وثورات الغضب ثم يعود صاحبه ويتوب ، فهذا مما تناله المغفرة ، وأما التوحيد الذي هو أساس الدين فلا يغفر الميل عنه إلى ضرب من ضروب الشرك ، والآيات التي قبل هذه الآية تفيد أن السياق هنا كالسياق هناك فأعادها لذلك المقصد وهو بيان أن مشاقة الرسول ومخالفته إنما تكون بالخروج عن التوحيد والوقوع في الشرك ; لأن التوحيد روح الدين وقوامه ، فالمناسبة هنا تقتضي أن يعاد هذا المعنى ، وهو إعادة تنادي البلاغة بطلبها ولا تعد من التكرار الذي قالوا : إنه ينافي البلاغة ، فإن هذا إنما يتحقق إذا كان المخاطبون قد فهموا منك معنى تمام الفهم كما تريد ، ثم ذكرته لهم بعبارة لا تزيدهم فائدة ولا تأثيرا جديدا ولا تمكينا للمعنى وأما ما يفيد شيئا من هذا الذي ذكرناه فهو الذي تقتضيه البلاغة اهـ .

                          أقول : إن هذا يقال على تقدير كون القرآن يوجه إلى كل فرد من أفراد المكلفين ، وأنهم جميعهم يسمعونه ويتلونه كله ويتذكرون عند كل سياق ما يناسبه في غيره ، وإذا أنت تذكرت أن الله - تعالى - يعلم أن الأمر لا يكون كذلك ، وأنه ربما يسمع هذا السياق الذي [ ص: 343 ] جاءت هذه الآية فيه من لم يكن سمع ذلك السياق الذي جاءت فيه الأخرى سواء كان ذلك في الصلاة أو غير الصلاة ، فإنك تجزم بأنه لا محل لجعل هذه الآية من التكرار الذي يفرون منه ; لأنه في هذه الحال يكون من قبيل ذكر الشاعر لمعنى من المعاني في قصيدتين يمدح في كل واحدة منهما رجلا غير الذي يمدحه في الأخرى ، وعلى هذا لا يتجه قول جمهور المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم : إن هذا التكرار للتأكيد ، والتأكيد تكأتهم في تعليل كل تكرار ، وإنما نقول هذا على تقدير كون التكرار المحض منتقدا ومخلا بالبلاغة ، وقد علمت أنه ليس كذلك ، بل هو ركن البلاغة الركين الذي لا يبلغ المتكلم مراده من النفس بدونه .

                          وأما معنى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فهو ظاهر وتقدم في تفسير الآية السابقة ولا يصدنا ذلك أن نقول فيه شيئا هنا نرجو أن يكون مفيدا : أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه ألبتة ، وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه ، وقد بينا في التفسير وفي بعض مباحث المنار أن عقاب الله - تعالى - للمذنبين هو أثر طبيعي لذنوبهم ، وما تحدثه من الصفات القبيحة في أنفسهم ، فكما أن السكر يحدث في البدن أمراضا يتعذب صاحبها بها في الدنيا يحدث هو وغيره من الشرور والخطايا أمراضا في القلوب والأرواح يتعذب بها صاحبها في الآخرة وكما أن قوة البدن وصحة المزاج تغلب بعض جراثيم الأمراض فلا يظهر لها تأثير مؤلم يعذب صاحبه كذلك قوة الروح بالتوحيد وصحة مزاجها بالإيمان ، والفضائل تغلب بعض المعاصي التي قد يلم بها المؤمن بجهالة أو نسيان ثم يتوب منها من قريب ، ولكن قوة البدن لا تدفع ما يعرض للقلب فيقطع نياطه أو للدماغ فيتلفه ، كذلك الشرك يشبه في إفساده للأرواح ما يصيب القلب أو الدماغ من سهم نافذ أو رصاصة قاتلة ، فلا مطمع في النجاة من العقاب عليه .

                          ذلك بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة الأنفس وضلال العقول فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده ، والعروض إلى جوار الله - تعالى - بروح صاحبه ، فإن روحه تكون في الآخرة على ما كانت في الدنيا متعلقة بشركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه - عز وجل - ، والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له ، والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصا لله عبدا له وحده ، فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان ولا الإباق يخرجانه عن كونه عبدا لسيد واحد ، ولسيده أن يعاقبه وأن يعفو عنه ، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبدا لغيره لا قنا ولا مبغضا ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 39 : 29 ) ، [ ص: 344 ] بل هم يجهلون أن شركاءهم الذين استكبروا امتيازهم عليهم بعلم أو عمل غير معتاد كبعض الأنبياء والأولياء والملوك ، كل هؤلاء عبيد أمثالهم لا ينبغي أن يكون لهم شركة ما في مقام العبادة لا بدعاء ولا نداء ، وكذلك ما استكبروا خلقه أو نفعه أو ضره كالكواكب والنار وبعض الأنهار والحيوانات إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ( 7 : 194 ) ، أولئك الذين يدعون ، أي يدعونهم ويتوسلون بهم هم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، التي تقربهم إليه زلفى وهي التوحيد والإخلاص والعمل الصالح أيهم أقرب أي : أقربهم وأعلاهم منزلة كالملائكة ، والمسيح يبتغي هذه الوسيلة إليه - عز وجل - ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، وإن أعرفهم به أشدهم خوفا منه ورجاء في فضله ورحمته ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك كما قال - عز وجل - ، فتجد الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة ، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى ، وتجد ملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء ، ويصمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكارا لهم ، وإنني أكتب هذا في ضواحي مدينة " دهلي " من أعظم مدن الهند وأنا أرى أصنافا من هؤلاء المشركين يجولون أمامي في مصالحهم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ( 43 : 9 ) ، وإنما هؤلاء المعبودات أو الأولياء وسائط بيننا وبينه وشفعاء ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ( 10 : 18 ) ، ولكن الله - تعالى - لا يقبل العبادة إلا خالصة لوجهه من كل شائبة إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب ( 39 : 2 ، 3 ) .

                          ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين ، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين ، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة ، وقد يسمونها توسلا أو شفاعة ، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء ، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء ، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء ، ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله ونداؤه لقضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، لكفى ذلك عبادة له هو وشركاه بالله - عز وجل - ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الدعاء هو العبادة رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ، وفي رواية ضعيفة " الدعاء مخ العبادة " والأولى تفقد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء ، وهو حصر على سبيل المبالغة كأن ما عدا الدعاء لا يعد بالنسبة إليه ، وقد قالوا : إن هذا الحديث من قبيل حديث : [ ص: 345 ] الحج عرفة أي : هو الركن الأهم الذي لا يعتد بغيره عند تركه ، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جدا يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولا سيما عند الشدة ، وأن ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان فكله أو جله تعليمي تكليفي يفعل بالتكلف والقدوة ، وقد يكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو العمل عبادة وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية ، حتى إن الأدعية التعليمية في جميع الأديان قد تكون خالية من معنى العبادة وروحها الذي ذكرناه ، سواء دعي بها الله وحده أو دعي بها غيره معه أو وحده ، ولا سيما الأدعية الراتبة في الصلوات الموقوتة أو في غير الصلوات ، فإن الحافظ لها يحرك بها لسانه في الوقت المعين وقلبه مشغول بشيء آخر ، إنما العبادة جد العبادة في الدعاء الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب وقرارة النفس ، عند وقوع الخطب وشدة الكرب ، والشعور بشدة الحاجة إلى الشيء ، واستعصاء الوسائل إليه ، وتقطع الأسباب دونه ، ذلك الدعاء الذي تسمعه من أصحاب الحاجات ، وذوي الكربات عند حدوث الملمات ، وفي هياكل العبادات ، ولدى قبور الأموات ، ذلك الدعاء الخالص الذي يغشاه جلال الإخلاص ، ويمثل كل حرف من حروفه معنى الخشوع التام وناهيك بما يفجره هذا الخشوع من ينابيع الدموع ، ذلك الدعاء الذي يستغله سدنة الهياكل ويستثمره خدمة المقابر ، ويضن به ويدافع عنه رؤساء الأديان ; لأنه أشد أركان رياستهم على العوام ، ومنهم من يضن به ; لأنه لا يرى لجمهور الجاهلين غنى عنه ، ولا يرى في حيز الإمكان استبدال التوحيد به ، على أن الموحدين أعلى إخلاصا ، وأشد حبا لله وخشوعا ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ( 2 : 165 ) .

                          ومن يشرك بالله أي : ومن يشرك بالله أحدا أو شيئا فيدعه معه ، ويذكر اسمه مع اسمه ، أو يدعه من دونه ، ملاحظا في دعائه أنه يقربه إليه زلفى ، أو غير ملاحظ ذلك ولا متذكر له ، وإن كان بحيث لو ذكر به لذكره ، وهذا النوع من الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقواها ; لأن الاعتقاد فيه يكون وجدانيا حاكما على النفس مستعبدا لها ، ودونه الشرك المبني على الفكر والنظر الذي يحاجك صاحبه بالشبهات المشهورة المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوقين وقياسه على الملوك الظالمين ، كقولهم : إن الإنسان [ ص: 346 ] المذنب الخاطئ والضعيف المقصر لا يليق به أن يخاطب الإله العظيم كفاحا ولا أن يدعوه مباشرة ، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه ، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم ، وقد يكون صاحب هذه العقيدة النظرية مقلدا فيها بالرأي والقول الذي يسميه حجة ودليلا سليم الوجدان من تأثيرها لعدم التقليد فيها بتكرار العمل فهو لا يلابسه إلا قليلا ، وكذلك من يشرك في ربوبية الله - تعالى - باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلون له ما يرون تحليله ، ويحرمون عليه ما يرون تحريمه ، فيتبعهم في ذلك من يشرك بالله أي نوع من أنواع الشرك فقد ضل عن القصد ، وتنكب سبيل الرشد ضلالا بعيدا عن صراط الهداية ، موغلا في مهامه الغواية ; لأنه ضلال يفسد العقل ويدسي النفس فيخضع صاحبه ويستخذي لعبد مثله ، ويخشع ويضرع أمام مخلوق يحاكيه أو يزيد عليه في عجزه فيطيع من لا يطاع ، ويرجو ولا موضع للرجاء ، ويخاف ولا موطن للخوف ، ويكون عبدا للأوهام ، عرضة للخرافات ، لا استقلال لعقله في إدراكه ، ولا لإرادته في عمله ، بل يكون عقله ورأيه وإرادته في تصرف بعض المخلوقات التي لا تملك له ولا لأنفسها نفعا ولا ضرا ، ولا هداية ولا غواية قل إني لا أملك لكم ضرا ، ولا نفعا ، ولا غواية ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ، فهذا أعلى وأعظم ما أعطاه الله - تعالى - للمصطفين الأخيار من عباده ، وميزهم به على سائر عباده ، وهو تبليغ رسالته ، والدعوة إلى دينه ، من غير أن يكونوا مسيطرين ولا جبارين ، ولا آلهة أو أربابا معبودين قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( 18 : 110 ) .

                          فعلم من هذا ومما بيناه من قبل في مثل هذا البحث أن سبب عدم مغفرة الله للشرك مع جواز غفران غيره يؤخذ من قاعدتين :

                          الأولى : أن الجزاء في الآخرة هو بسلامة الأرواح وسعادتها أو هلاكها وشقاوتها ، هو تابع لما تكون عليه في الدنيا من سلامة الفطرة وصحة العقيدة ، ودرجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات ، وعمل الصالحات ، أو فساد الفطرة ، وخطأ العقيدة ، والتدنس بالرذيلة .

                          الثانية : أن لما يكون الناس عليه من الأمرين درجات ودركات ، أسفلها وأخسها [ ص: 347 ] الشرك ، وأعلاها كمال التوحيد ، ولكل منهما صفات وأعمال تناسبهما ، فلو جاز أن يغفر الشرك فتكون روح صاحبه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، تجول مع الملائكة المقربين في عليين ، لكان ذلك نقضا أو تبديلا لسنة الله - تعالى - في خلق الناس التي ترتب عليها أن يكون منهم شقي وسعيد ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، بعضهم فوق بعض بطبعه وصفاته الروحية كما يكون الأخف من الغازات والمائعات فوق الأثقل بطبعه ، سنة الله التي لا تبديل لها ولا تغيير .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية