الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4676 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يلاعن وينتفي نسبه منه ويلزم أمه وذلك إذا كان لم يقر به قبل ذلك، ولم يكن منه ما حكمه حكم الإقرار، ولم يتطاول ذلك.

                                                واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن نافع ، عن ابن عمر: "أن رسول الله -عليه السلام- فرق بين المتلاعنين وألزم الولد أمه". . قالوا: فهذه سنة عن رسول الله -عليه السلام- لم نعلم شيئا عارضها ولا نسخها، فعلمنا بها أن قول رسول الله -عليه السلام- الولد للفراش لا ينفي أن يكون اللعان به واجبا إذا نفى، إذ كان رسول الله -عليه السلام- قد فعل ذلك، وأجمع أصحابه من بعده على ما حكموا في ميراث ابن الملاعنة، فجعلوه لا أب له، وجعلوه من قوم أمه، وأخرجوه من قوم الملاعن، ثم اتفق على ذلك تابعوهم من بعدهم، ثم لم يزل الناس على ذلك إلى أن شذ هذا المخالف لهم، فالقول عندنا في ذلك على ما فعله [ ص: 321 ] رسول الله -عليه السلام- وأصحابه من بعده، وتابعوهم من بعدهم على ما ذكرنا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير الفقهاء من التابعين ومن بعدهم، منهم: الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم؛ فإنهم قالوا: إذا نفى الرجل ولد امرأته يلاعن، وينتفي نسبه منه ويلزم أمه، ثم في هذا تفصيل وخلاف من وجه آخر بينهم، فقال أصحابنا: إذا كان القذف ينفي الولد بحضرة الولادة أو بعدها بيوم أو يومين، أو نحو ذلك من مدة يأخذ فيها التهنئة وانبياع الأب الولادة عادة صح ذلك، فإن نفاه بعد ذلك لا ينتفي، ولم يؤقت أبو حنيفة لذلك وقتا، وروي عنه أنه وقت لذلك سبعة أيام، وأبو يوسف ومحمد وقتاه بأكثر النفاس وهو أربعون يوما، واعتبر الشافعي الفور فقال: إن نفاه على الفور ينتفي وإلا لا، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: قال أبو حنيفة: إذا ولدت فنفاه من يوم يولد أو بعد يوم أو يومين لاعن وانتفى الولد، وإن لم ينفه حتى مضت سنة أو سنتان لاعن، ولزمه الولد، ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا، ووقت أبو يوسف ومحمد بمقدار النفاس أربعين يوما، وقال أبو يوسف: إن كان غائبا فقدم فله نفيه ما بينه وبين مقدار النفاس منذ يوم قدم ما كان في الحولين فإن قدم بعد الحولين، لم ينتف عنه أبدا، وقال الشافعي: إذا علم بالحمل وأمكنه التحاكم فترك اللعان لم يكن له نفيه كالشفعة، وقال في القديم: إن لم ينفه في يوم أو يومين، وقال بمصر: أو ثلاثة لم يكن له نفيه، ولو أشهد على نفسه لشغل ما أمكنه فوته أو لمرض أو كان غائبا وقال: لم أصدق حملها، فهو على نفيه، وكذلك الحاضر إذا قال لم أعلم ولو رآها حبلى وقال: لم أعلم أنه حمل حتى ولدت كان له نفيه.

                                                قوله: "ويلزم أمه" أي يلزم الولد المنفي أمه، حتى لا يرث إلا من أمه، وإذا مات هو لا يرثه إلا أمه.

                                                [ ص: 322 ] وقد روينا عن البخاري في حديث سهل بن سعد، قال ابن جريج : قال ابن شهاب: "فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وكانت حاملا، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله".

                                                قلت: ما فرض الله لها هو الثلث إن لم يكن له ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الإخوة والأخوات فإن كان شيء من ذلك فلها السدس، ثم إذا وقع لأمه فرضها أو إلى أصحاب الفروض وبقي شيء فهو لموالي أمه، فإن لم يكن لها موالي فهو لبيت المال.

                                                قاله الشافعي ومالك وأبو ثور وقبلهم ابن شهاب .

                                                وقال الحكم وحماد: يرثه ورثة أمه، وقال الآخرون: عصبته أمه، روي هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد بن حنبل، قال أحمد : فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة، قال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، الثلث بالفرض، والباقي بالرد على قاعدته.

                                                قوله: "وذلك إذا لم يقر به" أي بالولد قبل ذلك، أي قبل نفيه، قيد بذلك؛ لأنه إذا كان قد أقر به وهو حمل ثم نفاه بعد الولادة لا ينتفي، ولا يصح نفيه.

                                                قوله: "ولم يكن منه" أي من الرجل الذي ينفي فيه، أي في الولد ما حكمه حكم الإقرار، قيد به لأنه إذا وجد منه فيه ما يدل على أنه إقرار لا يصح نفيه، وذلك نحو أن يسكت إذا هنئ به ولا يرد على المهنئ، فكان السكوت -والحالة هذه- اعترافا بنسب الولد، فلا يمكن نفيه بعد الاعتراف؛ وذلك لأن العاقل لا يسكت عند التهنئة بولد ليس منه عادة.

                                                وروى ابن رستم عن محمد: إذا هنئ بالولد من الأمة فسكت لم يكن اعترافا، وإن سكت في ولد الزوجة كان اعترافا.

                                                [ ص: 323 ] قوله: "ولم يتطاول ذلك" أي النفي بعد الولادة، حتى إذا تطاول أياما ثم نفاه لا يصح نفيه، وقد ذكرنا حد التطاول في ذلك آنفا.

                                                قوله: "احتجوا في ذلك" أي احتج الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وإسناده صحيح، وأخرجه مالك في "موطئه" ، وأخرجه الجماعة.

                                                قال البخاري : ثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك، قال: حدثني نافع ، عن ابن عمر: "أن النبي -عليه السلام- لاعن بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة".

                                                وقال مسلم : نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو أسامة .

                                                ونا ابن نمير، قال: نا أبي، قالا: أنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: "لاعن رسول الله -عليه السلام- بين رجل من الأنصار وامرأته ففرق بينهما".

                                                ورواه أيضا عن مالك وفي آخره: "وألحق الولد بأمه".

                                                وقال أبو داود : ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، عن مالك ، عن نافع، عن عبد الله بن عمر ، نحوه.

                                                وقال الترمذي : نا قتيبة، قال: نا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر، نحوه.

                                                وقال: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم.

                                                [ ص: 324 ] وقال النسائي : أخبرنا قتيبة، حدثنا مالك ... إلى آخره نحوه.

                                                وقال ابن ماجه : ثنا أحمد بن سنان، نا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "وألزم الولد أمه" أي ألحقه به.

                                                فإن قيل: ما معنى هذا الكلام ومعلوم أنه قد لحق بأمه، وأنها على كل حال أمه؟!

                                                قيل له: المعنى أنه ألحقه بأمه دون أبيه، ونفاه عن أبيه بلعانه وصيره إلى أمه وحدها، ولهذا ما اختلف العلماء في ميراثه.

                                                قوله: "قالوا" أي قال هؤلاء القوم الآخرون: إن هذه سنة عن رسول الله -عليه السلام- يعني: التفريق بين المتلاعنين وإلحاق الولد بالأم سنة النبي -عليه السلام- فإنه -عليه السلام- قد فعل ذلك وأجمع أصحابه على ذلك أيضا من بعده، ثم اتفق على ذلك أيضا من بعد الصحابة تابعوهم، فكلهم أجمعوا على أن ولد الملاعنة لا أب له، وأنه من قوم أمه دون أبيه، ثم لم يزل الناس على ذلك العمل إلا ما شذ ما ذكرنا من أهل المقالة الأولى، فلا عبرة لقولهم ذلك لشذوذه، ولا يصح أيضا استدلالهم بقوله -عليه السلام-: "الولد للفراش" فيما ذهبوا إليه، لأنه لا ينفي وجوب اللعان بنفي الولد، ولا يعارض الأحاديث التي تدل على ذلك، فافهم. والله أعلم بالصواب.

                                                ...




                                                الخدمات العلمية