الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. قال : وإذا نفى الرجل ولد امرأته بعد ما مات أو كان حيا قبل اللعان فهو ابنه لا يستطيع أن ينفيه ; لأن النسب ثبت منه بالفراش ، وتقرر ذلك بموت الولد فلا يتصور بعد تقرره ، وهذا ; لأن الميت لا يكون محلا لإثبات نسبه بالدعوة ابتداء فكذلك لا يكون محلا لقطع نسبه الذي كان ثابتا باللعان ، فإن كل واحد من الحكمين يستدعي المحل فكذلك لو قبل الولد ; لأنا حكمنا للأب بالميراث عنه إما بدل نفسه أو مال إن كان له ، والنسب بعد ما صار محكوما به لا يحتمل القطع ، وإذا كان للمرأة ولد وليس في يدي زوجها فقالت تزوجتك بعد ما ولدت هذا من زوج قبلك ، وقال الزوج بل ولدتيه مني في ملكي فهو ابن الزوج ; لما بينا أن النسب بينهما ظاهر ، وهو الفراش ، وما ادعت غير معروف فيحال بالولد على السبب الظاهر ، فلو كان الصبي في يدي الرجل دون المرأة فقال : ابني من غيرك ، وقالت هو ابنك مني فالقول قول الزوج ، ولا تصدق المرأة بخلاف ما سبق والفرق من وجهين أحدهما أن قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشا آخر له [ ص: 158 ] على غيرها إما بنكاح أو بملك يمين فإذا كان الولد في يده كان نسبه إليه من أي فراش حصل له ، وأما ثبوت الفراش له عليها ينافي فراش آخر عليها لغيره ، وكان هذا الفراش في حقها متعينا ، وباعتباره يثبت النسب منه من هذا الزوج ; ولأن المرأة في يد الرجل ، والولد الذي في يدها من وجه كأنه في يده فأما الزوج ليس في يد امرأته فما في يده لا يكون في يدها فلهذا لا يقبل قولها

وإذا نفى الرجل ولد امرأته ، وفرغا من اللعان عند القاضي فقبل أن يفرق بينهما ويقطع النسب من الأب فإذا مات أحدهما فالولد ثابت النسب من الزوج ; لأن نفس اللعان لا يقطع النسب ما لم يقطعه القاضي إذ ليس من ضرورة اللعان قطع النسب فإذا مات أحدهما إذن اعترض قبل قطع النسب ما لو كان موجودا في الابتداء منع اللعان بينهما فكذلك يمنع قطع النسب به ، وكما يتقرر حكم النسب بموت الولد فكذلك بموت الأب لاستحقاق الولد الميراث منه .

ولو كانت ولدت ولدين توأما فعلم أحدهما فنفاه ، ولاعن وألزمه القاضي أمه يفرق بينهما ، ثم علم بالآخر فهما ابناه ; لأن نسبهما ثبت منه باعتبار الفراش ، وإنما جرى اللعان بينهما في الولد الذي نفاه فبقي نسب الآخر ثابتا كما كان ، وقد فرق القاضي بينهما فلا يمكنه أن ينفي نسب الآخر باللعان بعد الفرقة ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ; لأنهما توأم يقرره ، وأنه لا بد من جعل أحدهما أصلا ، وإلحاق الآخر به والذي انقطع نسبه منه باللعان محتمل للثبوت منه بالإكذاب والذي نفى ثابت النسب منه بعد الفرقة تسمية لا تحتمل النفي عنه فجعل هذا أصلا أولى .

ولأن النسب يثبت في موضع الشبهة فلا ينتفي بمجرد الشبهة فترجح الجانب الذي فيه شبهة أولى فإن علم بالثاني قبل أن يفرق بينهما فنفاه أعاد اللعان وألزم الولدين الأم ; لأن النكاح بينهما قائم عند نفي الولد الثاني فيجري اللعان بينهما لقطع نسبه كالولد الأول ، وإن أكذب الملاعن نفسه بالدعوة بعد ما فرق القاضي بينهما ثبت النسب منه ; لأنه نفى موقوفا على حقه حتى لو ادعاه غيره لم يثبت منه فإذا أقر به بعد الإنكار صح إقراره وعليه الحد ; لأنه أقر بأنه قذفها وهي محصنة فعليه حد القذف عند خصومتها ، وهذا إذا كان الابن حيا سواء كانت الأم حية أو ميتة فإن كان الولد قد مات وترك ميراثا ، ثم أعاده الأب لم يصدق ; لأن الأب مدع للمال لا مقر بالنسب فإن الولد بالموت قد استغنى عن الشرف بالنسب وبمجرد الدعوى لا يستحق المال إذا لم يكن مناقضا في الدعوى فإذا كان مناقضا أولى إلا أن يكون ترك ابن الملاعنة ولدا أو أنثى فحينئذ صدق الأب ; لأنه الآن [ ص: 159 ] مقر بالنسب فإن ولد الابن ينسب إليه كولد الملاعنة نفسه فإذا صح الإقرار ضر بالجد ، وأخذ الميراث .

والحاصل أن النسب أصل عند إكذابه نفسه فإذا أمكن القضاء به إن كان المنفي نسبه حيا أو ميتا عن خلف يقضى بالنسب ، ثم يترتب عليه حكم الميراث ، وإذا كان ميت إلا عن خلف لا يمكن القضاء بالنسب فلو قضى بالمال كان قضاء بمجرد الدعوى ، والمال لا يستحق بمجرد الدعوى ، ولو كانت المنفية بنتا فماتت عن ابن ، وأكذب الملاعن نفسه ، ولم يصدق به لم يرث في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يصدق ويضرب الحد ويرث .

وجه قولهما : أنها ماتت عمن يخلفها فإن الولد كما ينسب إلى أبيه ينسب إلى أمه ، وكما يتشرف بشرف الأب يتشرف بشرف الأم ويصير كريم الطرفين ، وأب الأم يسمى أبا مجازا كأب الأب فكما في الفصل الأول جعل بقاء الولد كبقائه فكذلك هنا وأبو حنيفة رحمه الله يقول كلامه الآن في دعوى المال لا إقرار بالنسب ; لأن نسب الولد إلى قوم أبيه دون قوم أمه .

( ألا ترى ) أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قرشيا لا قبطيا ، وأن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة ، وفيه يقول القائل : فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات ; وللأنساب آباء ، فإذا لم يكن هذا الولد منتسبا إلى الملاعن صار وجوده كعدمه فلا يعمل إكذابه نفسه بخلاف ابن الابن على ما بينا ، فلو أراد ابن الملاعن أن يتزوج المنفية نسبها لم يكن له ذلك ، ولو فصل فرق بينهما ; لأنها قبل اللعان كانت أختا له ، ولم ينتف ذلك بمجرد اللعان من كل وجه حتى لو أكذب الملاعن نفسه ثبت النسب منه ، وكانت أختا له وشبهة الأختية كحقيقتها في المنع من النكاح ، وكذلك الملاعن نفسه لو قال لم أدخل بالأم وتزوج البنت فرق بينهما ; لأنها كانت ابنة له وبعد اللعان قطع النسب عنه فبقي موقوفا على حقه ، لو أعادها صحت دعوته وشبهة البينة كحقيقتها في المنع من النكاح وللشافعي رحمه الله في هذا الفصل قولان : أحدهما أن له أن يتزوجها بمنزلة ابنته من الزنا على مذهبه وهي معروفة في النكاح ، والآخر كمذهبنا ; لأن النسب هنا موقوف على حقه لو ادعاه يثبت منه بخلاف المخلوق من مائه بالزنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية