الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الولادة والشهادة عليها ( قال رحمه الله أمة ولدت فادعت أن مولاها قد أقر به فجحد المولى فشهد عليه شاهد أنه أقر بذلك ، وشهد آخر أنه ولد على فراشه ) لم تقبل شهادتهما لاختلافهما في المشهود به فإن أحدهما يشهد بالقول وهو الإقرار وشهد الآخر بالفعل وهو الولادة على الفراش وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين فإن اتفق رجلان على الشهادة على الإقرار وعلى الولادة على فراشه فهو جائز ; لأنهما إن شهدا على الإقرار فثبوت الإقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة ، وإن شهدا على الولادة فقد شهدا بالسبب المثبت للنسب منه قال : ولو كان المولى ذميا والأمة مسلمة فشهد ذميان عليه بذلك جاز ; لأن هذه الشهادة تقوم على المولى وشهادة أهل الذمة على أهل الذمة حجة فإن كان المولى هو المدعي ، والأمة جاحدة لم تجز شهادة الذميين عليها لكونها مسلمة ، وتأويل هذه المسألة أنها تجحد المملوكية للمولى فإنها إذا كانت تقر بذلك ينفرد المولى بدعوة نسب ولدها ، ولا عبرة بتكذيبها .

ولو كانا مسلمين فشهد على الدعوة أب المولى وجده لم تجز الشهادة ; لأنهما يشهدان بالسبب للولد وهو ابن ابنيهما ، وشهادة المرء لابن ابنه لا تقبل ، وإن شهد بذلك ابن المولى جازت الشهادة إذا كان المولى جاحدا لذلك ; لأنهما يشهدان لأخيهما على أبيهما وشهادة المرء لأخيه على أبيه مقبولة إنما لا تقبل شهادته لأبيه ، وإذا طلقت امرأة من زوجها فاعتدت ، ثم تزوجت وولدت من الزوج الآخر ، ثم جاء الولد حيا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الولد للزوج الأول سواء جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها أو لأكثر من ذلك ; لأنه صاحب الفراش الصحيح فإن نفيه لا يفسد [ ص: 162 ] فراشه ، والزوج الثاني صاحب الفراش الفاسد ، ولا معارضة بين الصحيح ، والفاسد بوجه بل الفاسد مدفوع بالصحيح والمرأة مردودة على الزوج الأول والولد ثابت النسب منه كمن زوج أمته فجاءت بولد ثبت النسب من الزوج دون المولى ، وإن ادعاه المولى ; لأن ملك اليمين لا يعارض النكاح في الفراش بل الفراش الصحيح لصاحب النكاح بل أولى فإن هناك ملك اليمين عند الانفراد غير مثبت للحل والنكاح الفاسد عند الانفراد غير مثبت للحل فإن نفى الأول والآخر الولد أو نفاه أحدهما أو ادعيا أو ادعاه أحدهما فهو للأول على كل حال ، ولا حد عليه ، ولا لعان ; لأنها غير محصنة حين دخل الزوج الثاني بنكاح فاسد فلا يجري اللعان بينها ، وبين الأول .

والنسب إذا ثبت بالنكاح لا ينتفي إلا باللعان ، وكان ابن أبي ليلى يقول : الولد للثاني ; لأن الفراش الفاسد يثبت النسب كالفراش الصحيح أو أقوى حتى يثبت النسب به على وجه لا ينتفي بالنفي ، ثم الثاني إليها أقرب يدا والولد مخلوق من مائه حقيقة فيترجح جانبه بالقرب ، واعتبار للحقيقة وذكر أبو عصمة عن إسماعيل بن حماد عن عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة رحمهم الله أن النسب يثبت مع الزوج الثاني كما هو قول ابن أبي ليلى وفيه حديث الشعبي ذكره في الكتاب أن رجلا من جعفي زوج ابنته من عبيد الله بن الحر ، ثم مات ولحق عبيد الله بمعاوية رضي الله عنه فزوج الجارية إخوتها فجاء ابن الحر فخاصم زوجها إلى علي رضي الله عنه فقال علي رضي الله عنه أما إنك الممالي علينا عدوانا فقال أيمنعني ذلك من عدلك فقال لا فقضى بالمرأة له ، وقضى بالولد للزوج الآخر إلا أن أبا حنيفة رحمه الله قال : الحديث غير مشهور فلا يترك به القياس الظاهر ، ولو ثبت وجب القول به ، وكان أبو يوسف رحمه الله يقول إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني فهو من الزوج الأول ، وإن جاءت به لستة أشهر منذ تزوجها الثاني فهو من الزوج الأول ، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني سواء ادعياه أو نفياه ; لأن النكاح الفاسد يلحق بالصحيح في حكم النسب فباعتراض الثاني على الأول ينقطع الأول في حكم النسب ، ويكون الحكم للثاني والتقدير فيه بأدنى مدة الحبل اعتبارا للفاسد بالصحيح ، وإنما قلنا إن الأول ينقطع بالثاني ; لأن بدخول الثاني بها يحرم على الأول ويلزمها العدة من الثاني .

ووجوب العدة ليس إلا لصيانة الماء في الرحم فلو لم يكن النسب بحيث يثبت من الثاني لم يكن لوجوب العدة عليها من الثاني معنى وعلى قول محمد رحمه الله إن جاءت به لأكثر من سنتين منذ دخل بها للثاني فهو الثاني ، وإن جاءت به لأقل من سنتين منذ دخل [ ص: 163 ] بها الثاني فهو للأول ; لأن وجوب العدة عليها من الثاني بالدخول لا بالنكاح والحرمة إنما ثبتت على الأول بوجوب العدة من الثاني فكانت حرمتها عليه بهذا السبب كحرمتها بالطلاق ، والتقدير بأدنى مدة الحبل عند قيام الحل ، ولا حل بينهما فالعبرة للمكان فإذا جاءت به لأقل من سنتين منذ دخل بها الثاني يتوهم أن يكون هذا من علوق كان قبل دخول الثاني بها في حال حلها للأول فكان النسب ثابتا منه ، وإن جاءت به لأكثر من سنتين فقد انقطع هذا التوهم فكان النسب من الثاني ، وكذلك لو سبيت المرأة فتزوجت رجلا من أهل الحرب فولدت فهو على هذا الخلاف ، وكذلك لو ادعت الطلاق ، واعتدت وتزوجت والزوج الأول جاحد لذلك فهذا كله في المعنى سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية