الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : في فضيلة الصبر قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا ، وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) [ السجدة : 24 ] ، وقال : ( وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) [ الأعراف : 137 ] وقال : ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) وقال : ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) [ القصص : 54 ] وقال : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [ الزمر : 10 ] فما من طاعة إلا وأجرها مقدرا إلا الصبر ، ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى : ( الصوم لي ) فأضافه إلى نفسه ، ووعد الصابرين بأنه معهم فقال : ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) [ الأنفال : 46 ] وعلق النصرة على الصبر فقال : ( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ) [ آل عمران : 125 ] وجمع للصابرين أمورا لم يجمعها لغيرهم فقال : ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [ البقرة : 157 ] . وأما الأخبار فقال - عليه الصلاة والسلام - : " الصبر نصف الإيمان " وتقريره أن الإيمان لا يتم إلا بعد ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأعمال والعقائد ، وبحصول ما ينبغي ، فالاستمرار على ترك ما لا ينبغي هو الصبر وهو النصف [ ص: 139 ] الآخر ، فعلى مقتضى هذا الكلام يجب أن يكون الإيمان كله صبرا إلا أن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي قد يكون مطابقا للشهوة ، فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، وقد يكون مخالفا للشهوة فيحتاج فيه إلى الصبر ، فلا جرم جعل الصبر نصف الإيمان ، وقال - عليه السلام - : " من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار " وقال - عليه السلام - : " الإيمان هو الصبر " وهذا شبه قوله - عليه السلام - : " الحج عرفة " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : في بيان أن الصبر أفضل أم الشكر ؟ قال الشيخ الغزالي - رحمه الله - : دلالة الأخبار على فضيلة الصبر أشد ، قال - عليه السلام - : " من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر " وقال : " يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ، ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له : أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تعالى : لقد أنعمت عليك فشكرت ، وابتليتك فصبرت ، لأضعفن لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين " وأما قوله - عليه السلام - : " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " فهو دليل على فضل الصبر ؛ لأن هذا إنما يذكر في معرض المبالغة ، وهي لا تحصل إلا إذا كان المشبه به أعظم درجة من المشبه كقوله - عليه السلام - : " شارب الخمر كعابد الوثن " ، وأيضا روي أن سليمان - عليه السلام - يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا لمكان ملكه ، وآخر الصحابة دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه ، وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء وأمامهم أيوب - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : دلت هذه الآية على أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات ؛ لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر ، وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع ، وشرب الماء لا يفيد الري ، بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب ؛ لأن قوله : ( ولنبلونكم ) صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى ، وقول من قال : إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذا القول ضعيف لأنه مجاز ، والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية