الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  قال أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء، عن صفوان بن يعلى، أخبره أن يعلى قال لعمر رضي الله عنه: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل، فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك. قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم. [ ص: 150 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 150 ] مطابقته للترجمة في قوله: (اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات) قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب، كما في الترجمة، وإنما فيه أن الرجل كان متضمخا، وقوله له: "اغسل الطيب الذي بك" يوضح أن الطيب لم يكن في ثوبه، وإنما كان على بدنه، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: قوله: "ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب كما في الترجمة" غير مسلم; لأن في الحديث: "وهو متضمخ بطيب" أعم من أن يكون على بدنه، أو على ثوبه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اغسل الطيب الذي بك" أعم من أن يكون على بدنه، أو على ثوبه، على أن الخلوق في العادة يكون في الثوب، والدليل على ما قلنا ما سيأتي في محرمات الإحرام من وجه آخر بلفظ: "عليه قميص فيه أثر صفرة" وروى أبو داود والطيالسي في (مسنده) عن شعبة، عن قتادة، عن عطاء بلفظ: "رأى رجلا عليه جبة عليها أثر خلوق". وروى مسلم: حدثني إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا أبو علي عبيد الله بن عبد المجيد، حدثنا رباح بن أبي معروف، قال: سمعت عطاء، قال: أخبرني صفوان بن يعلى، عن أبيه، قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل عليه جبة بها أثر من خلوق، فقال: يا رسول الله، إني أحرمت بعمرة، فكيف أفعل؟ فسكت عنه، فلم يرجع إليه، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يستره إذا نزل عليه الوحي يظله، فقلت لعمر: إني أحب إذا نزل عليه الوحي أن أدخل رأسي معه في الثوب، فجئته، فأدخلت رأسي معه في الثوب، فنظرت إليه صلى الله عليه وسلم، فلما سري عنه، قال: أين السائل آنفا عن العمرة؟ فقام إليه الرجل، فقال: انزع عنك جبتك، واغسل أثر الخلوق الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك".

                                                                                                                                                                                  وهذا ينادي بأعلى صوته أن أثر الخلوق كان على ثوب الرجل، ولم يكن على بدنه، وفي رواية أبي علي الطوسي: "عليه جبة فيها ردع من زعفران "... الحديث. وروى البيهقي من حديث أبي داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عطاء، عن يعلى مرفوعا: "رأى رجلا عليه جبة عليها أثر خلوق أو صفرة، فقال: اخلعها عنك واجعل في عمرتك ما تجعل في حجك".

                                                                                                                                                                                  قال قتادة: فقلت لعطاء: كنا نسمع أنه قال: شقها، قال: هذا فساد، والله لا يحب الفساد.

                                                                                                                                                                                  وعند أبي داود: فأمره أن ينزعها نزعا ويغسلها مرتين، أو ثلاثا. وعنده: فخلعها من رأسه.

                                                                                                                                                                                  وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم، أخبرنا عبد الملك ومنصور وغيرهما، عن عطاء، عن يعلى بن أمية أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحرمت، وعلي جبتي هذه، وعلى جبته ردع من خلوق"... الحديث، وفيه، فقال: "اخلع هذه الجبة واغسل هذا الزعفران".

                                                                                                                                                                                  فهذه الأحاديث كلها ترد على الإسماعيلي أن الطيب لم يكن على ثوبه، وإنما كان على بدنه.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): سلمنا هذا كله، وكيف توجد المطابقة بين الحديث والترجمة، وفيها لفظ الخلوق، وليس في حديث الباب إلا لفظ الطيب.

                                                                                                                                                                                  (قلت): جرت عادة البخاري أن يبوب بما يقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، وإن لم يخرجه، وهو في أبواب العمرة بلفظ "وعليه أثر الخلوق" على أن الخلوق ضرب من الطيب كما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أبو عاصم النبيل، واسمه الضحاك بن مخلد، وهو من شيوخ البخاري من أفراده، وهذا بصورة التعليق، وبذلك جزم الإسماعيلي، فقال: ذكره عن أبي عاصم بلا خبر.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو نعيم: ذكره بلا روية.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: وفي بعض النسخ العراقية، حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو عاصم، فهو إما محمد بن المثنى المعروف بالزمن، وإما محمد بن معمر البحراني، وإما محمد بن بشار بإعجام الشين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد تكرر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثالث: عطاء بن أبي رباح، كذلك.

                                                                                                                                                                                  الرابع: صفوان بن يعلى بن أمية، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له الجماعة سوى ابن ماجه.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبوه يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي أبو خلف وأبو خالد، أو أبو صفوان، وهو المعروف بيعلى بن منية -بضم الميم، وسكون النون، وفتح الياء آخر الحروف- ويقال: منية جدته، وهي منية بنت غزوان ، أخت عتبة بن غزوان ، ويقال: منية بنت جابر، أسلم يوم الفتح، وشهد الطائف وحنينا، وتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه.

                                                                                                                                                                                  وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: له تسعة عشر حديثا، قتل بصفين.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده):

                                                                                                                                                                                  فيه: "قال أبو عاصم" وهو تعليق.

                                                                                                                                                                                  وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه القول في ثلاثة مواضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن أبا عاصم بصري، والبقية مكيون، وهذا الإسناد منقطع; لأنه قال: إن يعلى قال لعمر، ولم يقل: إن يعلى أخبره أنه قال لعمر، اللهم إلا إذا كان صفوان حضر مراجعتهما فيكون متصلا.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عساكر: رواه عباس بن الوليد النرسي، عن داود العطار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن يعلى بن أمية، أو صفوان بن يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: [ ص: 151 ] عن أبيه.

                                                                                                                                                                                  ورواه قيس، عن عطاء، عن صفوان، عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة قد أهل بالعمرة، هو مصفر لجبته ورأسه، وعليه جبة، وفي رواية همام عن عطاء، عن صفوان، عن أبيه ... الحديث.

                                                                                                                                                                                  وفيه جبة عليها خلوق، أو أثر صفرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره):

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا عن أبي الوليد في فضائل القرآن عن أبي نعيم، وفي المغازي عن يعقوب بن إبراهيم، وفي فضائل القرآن أيضا عن مسدد.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الحج عن شيبان بن فروخ. وعن زهير بن حرب. وعن عبد بن حميد. وعن علي بن خشرم. وعن محمد بن يحيى. وعن إسحاق بن منصور. وعن عقبة بن مكرم، ومحمد بن رافع.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود فيه عن عقبة بن مكرم. وعن محمد بن كثير. وعن محمد بن عيسى. وعن يزيد بن خالد.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي فيه عن أبي عمر به.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي فيه، وفي فضائل القرآن عن روح بن حبيب. وعن محمد بن منصور، وعبد الجبار. وعن محمد بن إسماعيل. وعن عيسى بن حماد.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (أرني) من الإراءة، يقتضي مفعولين، أحدهما هو نون المتكلم، والآخر هو قوله: "النبي" .

                                                                                                                                                                                  قوله: (بينما النبي) قد مر غير مرة أن أصل بينما "بين" زيدت فيه الميم والألف، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة، وكذلك بينا بدون الميم، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وهنا الجملة مبتدأ وخبر، وهما قوله: (النبي بالجعرانة) وقوله: (جاء رجل) جوابه.

                                                                                                                                                                                  والجعرانة -بكسر الجيم والعين المهملة، وتشديد الراء- قال البكري: كذا يقول العراقيون.

                                                                                                                                                                                  ومنهم من يخفف الراء، ويسكن العين، وكذا الخلاف في الحديبية، وهما بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أدنى.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير: وهي قريب من مكة، وهي في الحل، وميقات الإحرام.

                                                                                                                                                                                  وقال ياقوت: هي غير الجعرانة التي بأرض العراق، قال سيف بن عمر: نزلها المسلمون لقتال الفرس.

                                                                                                                                                                                  وقال يوسف بن ماهك: اعتمر بها ثلاثمائة نبي عليهم الصلاة والسلام، يعني: بالجعرانة التي بقرب مكة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ومعه نفر من أصحابه) الواو فيه للحال، أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، وكان هذا بالجعرانة، كما ثبت هنا، وفي غيره في منصرفه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وفي ذلك الموضع قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمها، وذلك في سنة ثمان، كما ذكره ابن حزم وغيره، وهما موضعان متقاربان.

                                                                                                                                                                                  قوله: (جاءه رجل) وفي لفظ للبخاري سيأتي: "جاءه أعرابي ولم يعرف اسمه" ونقل بعضهم في (الذيل عن تفسير الطرطوشي) أن اسمه عطاء بن منبه، فقال: إن ثبت هذا فهو أخو يعلى راوي الخبر. قيل: يجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي، فإنه من رواية عطاء، عن صفوان بن يعلى بن منبه، عن أبيه، ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدا.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب (التوضيح) هذا الرجل يجوز أن يكون عمرو بن سواد؛ إذ في (كتاب الشفاء) للقاضي عياض عنه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق) فقال: "ورس ورس حط حط، وغشيني بقضيب بيده في بطني، فأوجعني..." الحديث، لكن عمرو هذا لا يدرك ذا، فإنه صاحب ابن وهب. انتهى.

                                                                                                                                                                                  واعترض بعض تلامذته عليه من وجهين:

                                                                                                                                                                                  أما أولا: فليست هذه القضية شبيهة بهذه القضية حتى يفسر صاحبها بها.

                                                                                                                                                                                  وأما ثانيا: ففي الاستدراك غفلة عظيمة; لأن من يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخيل فيه أنه صاحب ابن وهب، صاحب مالك، بل إن ثبت فهو آخر، وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، والغرض أنه لم يثبت قال: لأنه انقلب على شيخنا، وإنما الذي في (الشفاء) سواد بن عمرو. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): رأيت بخط بعض من أخذ عنه هذا المعترض على هامش الورقة التي في هذا الموضع من (كتاب التوضيح) قال: فائدة: الذي في الشفاء سواد بن عمر، وذكره في الباب الثاني من القسم الثالث، ولفظه: وأما حديث سواد بن عمرو: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق، فقال: ورس ورس، حط حط، وغشيني بقضيب في يده، فأوجعني، فقلت: القصاص يا رسول الله، فكشف لي عن بطنه" إنما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمنكر رآه، ولعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه. ولما ذكر هذا أنكر عليه ونسبه إلى التخبط، وإلى كلام لا معنى له.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهو متضمخ بطيب) الواو فيه للحال، و"متضمخ" بالضاد والخاء المعجمتين، يقال: تضمخ بالطيب إذا تلطخ به وتلوث به.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) الواو فيه للحال.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قد أظل به) بضم الهمزة، وكسر الظاء المعجمة، أي: جعل عليه كالظلة، وهذه الجملة حالية، ويجوز أن تكون محلها الرفع على أنه صفة لـ"ثوب".

                                                                                                                                                                                  قوله: (فإذا رسول الله) كلمة إذا للمفاجأة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهو يغط) الواو فيه للحال، ويغط: بفتح الياء، وكسر الغين المعجمة بعدها طاء مهملة [ ص: 152 ] أي ينفخ، وهو من الغطيط، وهو صوت النفس المتردد من النائم. ويقال: الغطيط صوت به بحوحة، وهو كغطيط النائم، أي: شخيره وصوته الذي يردده في حلقه، ومع نفسه، وسبب ذلك شدة الوحي وثقله، وهو كقوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم سري عنه) بضم السين المهملة، وكسر الراء المشددة، أي: كشف عنه شيئا بعد شيء بالتدريج.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: روي بتخفيف الراء المكسورة، وتشديدها، والرواية بالتشديد أكثر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (اغسل الطيب الذي بك) قد قلنا إنه أعم من أن يكون بثوبه، أو بدنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثلاث مرات) مبالغة في الإزالة، ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كان كثيرا، ويؤيده قوله: (متضمخ).

                                                                                                                                                                                  (قلت): لأن باب التفعل وضع للمبالغة. قال القاضي: يحمل قوله: "ثلاث مرات" على قوله: "فاغسله" فكأنه قال: "اغسله اغسله اغسله" ثلاث مرات، يدل على صحته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أبي داود: "أمره أن ينزعها نزعا ويغتسل مرتين أو ثلاثا"

                                                                                                                                                                                  قوله: (واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك) وفي رواية الكشميهني: (كما تصنع) وفي لفظ للبخاري في أبواب العمرة: (كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟) وفي مسلم من طريق قيس بن سعد، عن عطاء: (وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك) ويدل هذا على أنه كان يعرف أعمال الحج قبل ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب، ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: كما قاله، وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج.

                                                                                                                                                                                  وقال الباجي: المأجور غير نزع الثوب وغسل الخلوق; لأنه صرح له بهما، فلم يبق إلا الفدية. وفيه نظر; لأن فيه حصرا، وقد تبين فيما رواه مسلم من أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك في روايته من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: رجلا- وهو بالجعرانة، وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مقطفات -يعني: جبة- وهو متضمخ بالخلوق، فقال: إني أحرمت بالعمرة، وعلي هذا، وأنا متضمخ بالخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعا في حجك؟ قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك".

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقلت لعطاء) القائل هو ابن جريج.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  فيه جواز نظر الرجل إلى غيره وهو مغطى بشيء، وإدخال رأسه في غطائه إذا علم أنه لا يكره ذلك منه، فإن يعلى أدخل رأسه فيما أظل به صلى الله تعالى عليه وسلم; لأنه علم أنه لا يكره ذلك في ذلك الوقت; لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حال الوحي الكريم، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه علم ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حتى قال للرجل: تعال فانظر.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن المفتي إذا لم يعلم حكم المسألة أمسك عن جوابها حتى يعلمه.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن من الأحكام التي ليست في القرآن ما هو بوحي لا يتلى.

                                                                                                                                                                                  وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالفدية، فأخذ به الشافعي، والثوري، وعطاء، وإسحاق، وداود، وأحمد في رواية، وقالوا: إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلا فلا فدية عليه، والناسي في معناه.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه: يلزمه إذا غطى رأسه ووجهه متعمدا أو ناسيا يوما إلى الليل، فإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها.

                                                                                                                                                                                  وعن مالك: يلزمه إذا انتفع بذلك، أو طال لبسه عليه.

                                                                                                                                                                                  وفيه المبالغة في الإنقاء من الطيب.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن المحرم إذا كان عليه مخيط نزعه، ولا يلزمه تمزيقه، ولا شقه؛ خلافا للنخعي والشعبي حيث قالا: لا ينزعه من قبل رأسه؛ لئلا يصير مغطيا رأسه. أخرجه ابن أبي شيبة عنهما.

                                                                                                                                                                                  وعن علي رضي الله تعالى عنه نحوه، وكذا عن الحسن، وأبي قلابة، وقد وقع عند أبي داود رضي الله تعالى عنه بلفظ (اخلع عنك الجبة، فخلعها من قبل رأسه).

                                                                                                                                                                                  وعن أبي صالح وسالم: (يخلعه من قبل رجليه).

                                                                                                                                                                                  وعن جعفر بن محمد، عن علي رضي الله تعالى عنه إذا أحرم وعليه قميص لا ينزعه من رأسه، بل يشقه، ثم يخرج منه.

                                                                                                                                                                                  وفيه: اختلف العلماء في استعمال الطيب عند الإحرام، واستدامته بعده، فكرهه قوم ومنعوه منهم: مالك، ومحمد بن الحسن، ومنعهما عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وعطاء، والزهري، وخالفهم في ذلك آخرون، فأجابوه، منهم أبو حنيفة، والشافعي؛ تمسكا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت) ولمسلم: "بذريرة في حجة الوداع" وفي رواية للبخاري كما سيأتي: (وطيبته بمنى قبل أن يفيض) وعنها: (كأني [ ص: 153 ] أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) والوبيص بالصاد المهملة البريق واللمعان. قالا: وحديث يعلى إنما أمره بغسل ما عليه; لأن ذلك الطيب كان زعفرانا، وقد نهى الرجال عن الزعفران، وجواب آخر بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة، كما ثبت في هذا الحديث، وهي في سنة ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة المذكور في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر .

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): إن ذلك الوبيص الذي أبصرته عائشة إنما كان بقايا ذلك الطيب، وقد تعذر قلعها، فبقي بعد أن غسل، وأيضا كان ذلك من خواصه; لأن المحرم إنما منع من الطيب؛ لئلا يدعوه إلى الجماع، والشارع معصوم، وأيضا كان مما لا تبقى رائحته بعد الإحرام.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد ذكرنا أن ذلك الطيب كان زعفرانا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الزعفران مطلقا، سواء كان في الحل أو الحرمة، ودعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، وقد روى ابن حزم من طريق حماد بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (طيبته صلى الله عليه وسلم بيدي) وروي أنهن كن يضمخن جباههن بالمسك، ثم يحرمن، ثم يعرقن فيسيل على وجوههن، فيرى ذلك صلى الله عليه وسلم، فلا ينكره.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية