الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا .

اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة وإذا حللتم فاصطادوا . ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله يا أيها الذين آمنوا . وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنهم لا يظن بهم إحلال المحرمات ، يدل على أن المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون .

ومعنى لا تحلوا شعائر الله لا تحلوا المحرم منها بين الناس ، بقرينة قوله لا تحلوا ، فالتقدير : لا تحلوا محرم شعائر الله ، كما قال تعالى ، في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء فيحلوا ما حرم الله ; وإلا فمن شعائر الله ما هو حلال كالحلق ، ومنها ما هو واجب . والمحرمات معلومة .

والشعائر : جمع شعيرة . وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله . وقد كانت الشعائر كلها معروفة لديهم ، فلذلك عدل عن عدها هنا . وهي أمكنة ، وأزمنة ، وذوات ; فالصفا ، والمروة ، والمشعر الحرام ، من الأمكنة . وقد مضت في سورة البقرة .

[ ص: 82 ] والشهر الحرام من الشعائر الزمانية ، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات . فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئي على كليه للاهتمام به ، والمراد به جنس الشهر الحرام ، لأنه في سياق النفي ، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم . فالتعريف تعريف الجنس ، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وقال ابن عطية : الأظهر أنه أريد رجب خاصة ليشتد أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، فإنما خص بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرمونه ، فلذلك كان يعرف برجب مضر ; فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرمونه . وكان يقال له : شهر بني أمية أيضا ، لأن قريشا حرموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلها لقول عوف بن الأحوص :


وشهر بني أمية والـهـدايا إذا حبست مضرجها الدماء

وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعم . والأظهر أن التعريف للجنس ، كما قدمناه .

والهدي : هو ما يهدى إلى مناسك الحج لينحر في المنحر من منى ، أو بالمروة ، من الأنعام .

والقلائد : جمع قلادة وهي ظفائر من صوف أو وبر ، يربط فيها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر ، أي قشره ، وتوضع في أعناق الهدايا مشبهة بقلائد النساء ، والمقصود منها أن يعرف الهدي فلا يتعرض له بغارة أو نحوها . وقد كان بعض العرب إذا تأخر في مكة حتى خرجت الأشهر الحرم ، وأراد أن يرجع إلى وطنه ، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يتعرض له بسوء .

ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته ، وهذا كقول أبي بكر : " والله لو منعوني عقالا [ ص: 83 ] كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه " . على أن القلائد مما ينتفع به ، إذ كان أهل مكة يتخذون من القلائد نعالا لفقرائهم ، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن ، وهي شقق من ثياب توضع على كفل البدنة ; فيتخذون منها قمصا لهم وأزرا ، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأن في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد .

وقوله ولا آمين البيت الحرام عطف على شعائر الله أي ولا تحلوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجاج ، فالمراد قاصدوه لحجة ، لأن البيت لا يقصد إلا للحج ، ولذلك لم يقل : ولا آمين مكة ، لأن من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه ، لأن من جملة حرمة البيت حرمة قاصده . ولا شك أن المراد آمين البيت من المشركين ; لأن آمين البيت من المؤمنين محرم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال . وقد روي ما يؤيد هذا في أسباب النزول : وهو أن خيلا من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضبيعة الملقب بالحطم بوزن زفر ، والمكنى أيضا بابن هند ، نسبة إلى أمه هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد ، وكان الحطم هذا من بكر بن وائل ، من نزلاء اليمامة ، فترك خيله خارج المدينة ودخل إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال إلام تدعو ، فقال رسول الله : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . فقال حسن ما تدعو إليه وسأنظر ولعلي أن أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من ورائي من لا أقطع أمرا دونهم وخرج فمر بسرح المدينة فاستاق إبلا كثيرة ولحقه المسلمون لما أعلموا به فلم يلحقوه ، وقال في ذلك رجزا ، وقيل : الرجز لأحد أصحابه ، وهو رشيد بن رميض العنزي وهو :


هذا أوان الشد فاشتـدي زيم     قد لفها الليل بسواق حطـم
[ ص: 84 ] ليس براعي إبل ولا غـنـم     ولا بجزار على ظهر وضم
باتوا نياما وابن هند لم ينـم     بات يقاسيها غلام كالزلـم
خدلج الساقين خفاق القـدم

ثم أقبل الحطم في العام القابل وهو عام القضية فسمعوا تلبية حجاج اليمامة فقالوا : هذا الحطم وأصحابه ومعهم هدي هو مما نهبه من إبل المسلمين ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نهبهم ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك . فهي حكم عام نزل بعد تلك القضية ، وكان النهي عن التعرض لبدن الحطم مشمولا لما اشتملت عليه هذه الآية .

والبيت الحرام هو الكعبة . وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس في هذه السورة . وجملة يبتغون فضلا من ربهم صفة لـ ( آمين ) من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحج إيماء إلى سبب حرمة آمي البيت الحرام .

وقد نهى الله عن التعرض للحجيج بسوء لأن الحج ابتغاء فضل الله ورضوانه ، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك ، قال النابغة :


حياك ربي فإنـا لا يحـل لـنـا     لهو النساء وإن الدين قد عزمـا
مشمرين على خوص مزمـمة     نرجو الإله ونرجو البر والطعما

ويتنزهون عن فحش الكلام ، قال العجاج :


ورب أسراب حجيج كظم     عن اللغا ورفث التكلـم

ويظهرون الزهد والخشوع ، قال النابغة :


بمصطحبات من لصاف وثبرة     يزرن إلالا سيرهن التدافـع
عليهن شعث عامدون لربهـم     فهن كأطراف الحني خواشع

[ ص: 85 ] ووجه النهي عن التعرض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين : أن الحالة التي قصدوا فيها الحج وتلبسوا عندها بالإحرام ، حالة خير وقرب من الإيمان بالله وتذكر نعمه ، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأن الخير يتسرب إلى النفس رويدا ، كما أن الشر يتسرب إليها كذلك ، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله وتعاونوا على البر والتقوى .

والفضل : خير الدنيا ، وهو صلاح العمل . والرضوان : رضى الله تعالى عنهم . وهو ثواب الآخرة ، وقيل : أراد بالفضل الربح في التجارة ، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلا إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكة .

التالي السابق


الخدمات العلمية