الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1465 133 - حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وهذا طريق آخر في حديث عائشة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر: حديث عائشة هذا صحيح ثابت لا يختلف أهل العلم في صحته وثبوته، وقد روي عن عائشة من وجوه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد ذكرنا أن الطحاوي أخرجه من ثمانية عشر طريقا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لإحرامه)، أي: لأجل إحرامه، وفي رواية مسلم والنسائي: "حين أراد أن يحرم".

                                                                                                                                                                                  قوله: (ولحله) أي: ولتحلله من محظورات الإحرام، وذلك بعد أن يرمي، ويحلق، وقد ذكرنا الخلاف فيه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  وقيل: استدل بقول عائشة: "كنت أطيب" على أن كان لا تقتضي التكرار; لأنها لم يقع ذلك منها إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع، وكذا استدل به النووي في (شرح مسلم) واعترض بأن المدعى تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام، مع كون الإحرام مرة واحدة.

                                                                                                                                                                                  وقال الإمام فخر الدين: إن كان لا تقتضي التكرار ولا الاستمرار، وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه.

                                                                                                                                                                                  وقال بعض المحققين: تقتضي التكرار، ولكن قد تقع قرينة تدل على عدمه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): كان تقتضي الاستمرار بخلاف صار، ولهذا لا يجوز أن يقال في موضع: كان الله أن يقال صار.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: هذا اللفظ -يعني: لفظ "كنت" في قول عائشة: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم تتفق الرواة عنها عليها، فسيأتي للبخاري من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، شيخ مالك فيه هنا بلفظ: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم" وسائر الطرق ليس فيها صيغة كان.

                                                                                                                                                                                  (قلت): في رواية مسلم، عن الأسود، عن عائشة: "إني كنت لأنظر إلى وبيص الطيب" وفي رواية النسائي عن عروة عنها قالت: "كنت أطيب" وفي رواية الطحاوي عن ابن عمر عنها قالت: "كنت أطيب" وفي رواية الطحاوي أيضا عن الأسود عنها أنها كانت تطيب، رواها من طريق الفريابي، عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن الأسود عنها، وكذا روى من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه عنها كانت تطيب، وهذا القائل كأنه لم يطلع على هذه الروايات، فلهذا ادعى بقوله: "وسائر الطرق ليس فيها صيغة كان" وهذه التي ذكرناها فيها صيغة "كان وكنت".

                                                                                                                                                                                  وفيه استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام، كما ذكرناه مفصلا.

                                                                                                                                                                                  وعن مالك يحرم، وعنه في وجوب الفدية قولان.

                                                                                                                                                                                  واحتجت المالكية فيه بأشياء: منها أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيب، كما في حديث إبراهيم بن المنتشر الذي تقدم في الغسل، ثم طاف على نسائه، ثم أصبح محرما، والمراد من الطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، فالضرورة [ ص: 158 ] ذهاب أثر الطيب، ورد هذا بحديث: "ثم أصبح محرما ينضح طيبا" وهذا لا يشك أن نضح الطيب -وهو رائحته- كان في حال إحرامه.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): إن فيه تقديما وتأخيرا، والتقدير: طاف على نسائه ينضح طيبا، ثم أصبح محرما.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا خلاف الظاهر، ويرده أيضا ما في رواية مسلم: "كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك".

                                                                                                                                                                                  وفي رواية النسائي وابن حبان: "رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم".

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كان الوبيص بقايا الدهن المطيب فزال، وبقي أثره من غير رائحة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قول عائشة "ينضح طيبا" يرد هذا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): بقي أثره لا عينه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت، قاله ابن العربي.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد روى أبو داود، وابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت طلحة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم، ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا ينهانا" وفي رواية: "كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجوهنا فيراه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا" فهذا صريح في بقاء عين الطيب.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هذا خاص بالنساء.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا نسلم ذلك; لأن النساء والرجال سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كان ذلك الطيب لا رائحة له، دل عليه رواية الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: "بطيب لا يشبه طيبكم" قال بعض رواته يعني: لا بقاء له. أخرجه النسائي.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يرد هذا ما رواه مسلم من رواية منصور بن زادان، عن عبد الرحمن بن القاسم: "بطيب فيه مسك" وفي رواية الطحاوي عن عائشة: "بالغالية الجيدة" كما ذكرناه، فهذا يدل على أن معنى قولها: "بطيب لا يشبه طيبكم" أطيب من طيبكم، لا كما فهمه بعض رواته، ومنها أنهم ادعوا أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد أجبنا عن ذلك عن قريب.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قاله بعضهم بأن عمل أهل المدينة على خلافه، ورد بما رواه النسائي من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل مكة منهم القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمروه به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى -مع ذلك - العمل على خلافه.

                                                                                                                                                                                  وفيه الدلالة على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، وقد ذكرناه عن قريب.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية