الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة ] الفائدة السادسة عشرة : لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة ، بل عليه أن يبين بيانا مزيلا للإشكال ، متضمنا لفصل الخطاب ، كافيا في حصول المقصود ، لا يحتاج معه إلى غيره ، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال : يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل وكتبه فلان .

وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال : تصلى على حديث عائشة ، وإن كان هذا أعلم من الأول .

وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال : أما أهل الإيثار فيخرجون المال كله ، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه ، أو كما قال .

وسئل آخر عن مسألة فقال : فيها قولان ، ولم يزد .

قال أبو محمد بن حزم : وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب ، فيكتب هو : جوابي فيها مثل جواب الشيخ ، فقدر أن مفتيين اختلفا في جواب ، فكتب تحت جوابهما : جوابي مثل جواب الشيخين ، فقيل له : إنهما قد تناقضا ، فقال : وأنا أتناقض كما تناقضا ، وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى ، وهو مقدم في مذهبه ، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب : يجوز كذا ، أو يصح كذا ، أو ينعقد بشرطه ، فأرسل إليه يقول له : تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه ، ونحن لا نعلم شرطه ، فإما أن تبين شرطه ، وإما أن لا تكتب ذلك .

وسمعت شيخنا يقول : كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط ، فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه ونحو ذلك ، وهذا ليس بعلم ، ولا يفيد فائدة أصلا سوى حيرة السائل وتبلده ، وكذلك قول بعضهم في فتاويه : يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم ، فيا سبحان الله ، والله لو كان الحاكم شريحا وأشباهه لما كان مرد أحكام الله ورسوله إلى رأيه فضلا عن حكام زماننا فالله المستعان .

وسئل بعضهم عن مسألة فقال : فيها خلاف ، فقيل له : كيف يعمل المفتي ؟ فقال : يختار له القاضي أحد المذهبين .

قال أبو عمرو بن الصلاح : كنت عند أبي السعادات بن الأثير الجزري ، فحكى لي عن بعض المفتين أنه سئل عن مسألة فقال : فيها قولان ، فأخذ يزري عليه ، وقال : هذا حيد عن الفتوى ، ولم يخلص السائل من عمايته ، ولم يأت بالمطلوب قلت : وهذا فيه تفصيل ; فإن المفتي المتمكن من العلم [ ص: 137 ] المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم ، وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل .

وكثيرا ما يسأل الإمام أحمد رضي الله عليه وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول : فيها قولان ، أو قد اختلفوا فيها ، وهذا كثير في أجوبة الإمام أحمد لسعة علمه وورعه ، وهو كثير في كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ، يذكر المسألة ثم يقول : فيها قولان .

وقد اختلف أصحابه هل يضاف القولان اللذان يحكيهما إلى مذهبه وينسبان إليه أم لا ؟ على طريقين ، وإذا اختلف علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد وأبي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم فقال : هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة ، فقد انتهى إلى ما يقدر عليه من العلم .

قال أبو إسحاق الشيرازي : سمعت شيخنا أبا الطيب الطبري يقول : سمعت أبا العباس الحضرمي يقول : كنت جالسا عند أبي بكر بن داود الظاهري ، فجاءته امرأة فقالت : ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها ، فقال لها : اختلف في ذلك أهل العلم ، فقال قائلون : تؤمر بالصبر والاحتساب ، ويبعث على التطلب والاكتساب ، وقال قائلون : يؤمر بالإنفاق ولا يحمل على الطلاق ، فلم تفهم المرأة قوله ، فأعادت المسألة ، فقال : يا هذه أجبتك عن مسألتك ، وأرشدتك إلى طلبتك ، ولست بسلطان فأمضي ، ولا قاض فأقضي ، ولا زوج فأرضي ، فانصرفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية