الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب تحريم الخمر

قال الله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين :

أحدهما : قوله : رجس لأن الرجس اسم في الشرع لما يلزم اجتنابه ؛ ويقع اسم الرجس على الشيء المستقذر النجس ، وهذا أيضا يلزم اجتنابه فأوجب وصفه إياها بأنها رجس لزوم اجتنابها .

والوجه الآخر : قوله تعالى : فاجتنبوه وذلك أمر والأمر يقتضي الإيجاب ، فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين . والخمر هي عصير العنب الني المشتد ، وذلك متفق عليه أنه خمر . وقد سمي بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيها بها مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق . وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة ، منها ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال : " لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء " وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة ، ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية ، فهذا يدل على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمى خمرا .

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : " نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ " ، فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر ، وجائز أن يكون سماه خمرا من حيث كان شرابا محرما .

وروى حميد الطويل عن أنس قال : " كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة ، فمر بنا رجل فقال : إن الخمر قد حرمت ، فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا : أهرق ما في إنائك يا أنس ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز وجل ، وإنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ " . فأخبر أنس [ ص: 123 ] أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر ، وهذا جائز أن يكون لما كان محرما سماه خمرا ، وأن يكون المراد أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامها ، لا أن ذلك اسم له على الحقيقة . ويدل عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث ، وقال : " إنما نعدها يومئذ خمرا " فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر .

وروى ثابت عن أنس قال : " حرمت علينا الخمر يوم حرمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورنا البسر والتمر " ومع هذا أيضا معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب الإسكار وطيبة النفس ، وإنما كان شراب البسر والتمر .

وروى المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال : " حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة ، وما خمرت من ذلك فهو خمر " فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر ، وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء ؛ فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر ، ثم قال : " وما خمرت من ذلك فهو خمر " وهذا يدل على أنه إنما سمى ذلك خمرا في حال الإسكار ، وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر . وقد روي عن عمر أنه قال : " إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل " وهذا أيضا يدل على أنه إنما سماه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه ، لقوله : " والخمر ما خامر العقل " . وقد روي عن السري بن إسماعيل عن الشعبي أنه حدثه أنه سمع النعمان بن بشير يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الحنطة خمرا ، وإن من الشعير خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا ولم يقل إن جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر ، وإنما أخبر أن منها خمرا .

ويحتمل أن يريد به ما يسكر منه فيكون محرما في تلك الحال ، لم يرد بذلك أن ذلك اسم لهذه الأشربة المتخذة من هذه الأصناف ؛ لأنه قد روي عنه بأسانيد أصح من إسناد هذا الحديث ما ينفي أن يكون الخمر من هذه الأصناف ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبان قال : حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير العنبري وهو يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنب .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا عبيد بن حاتم قال : حدثنا ابن عمار الموصلي قال : حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن عكرمة بن عمار عن أبي كثير عن أبي هريرة قال : [ ص: 124 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخمر من هاتين الشجرتين : النخل والعنب . وهذا الخبر يقضي على جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب بصحة سنده ، وقد تضمن نفي اسم الخمر عن الخارج من غير هاتين الشجرتين ؛ لأن قوله : " الخمر " اسم للجنس ، فاستوعب بذلك جميع ما يسمى خمرا ، فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما مسمى باسم الخمر .

واقتضى هذا الخبر أيضا أن يكون المسمى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشجرتين ، وهو على أول الخارج منهما مما يسكر منه ، وذلك هو العصير الني المشتد ونقيع التمر والبسر قبل أن تغيره النار لأن قوله : " منهما " يقتضي أول خارج منهما مما يسكر . والذي حصل عليه الاتفاق من الخمر هو ما قدمنا ذكره من عصير العنب الني المشتد إذا غلا وقذف بالزبد ، فيحتمل على هذا إذا كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : الخمر من هاتين الشجرتين أن مراده أنها من إحداهما ، كما قال تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما الرسل من الإنس ، وقال تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من أحدهما . ويدل على أن الخمر هو ما ذكرنا وأن ما عداها ليس بخمر على الحقيقة اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من هذه الأشربة غير مستحق لسمة الكفر ، فلو كانت خمرا لكان مستحلها كافرا خارجا عن الملة كمستحل الني المشتد من عصير العنب ، وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر في الحقيقة إنما يتناول ما وصفنا . وزعم بعض من ليس معه من الورع إلا تشدده في تحريم النبيذ دون التورع عن أموال الأيتام وأكل السحت أن كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحاح عن رسول الله وما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي واللغة القائمة المشهورة والنظر وما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم يدل على أن كل شيء أسكر فهو خمر فأما كتاب الله فقوله : تتخذون منه سكرا فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخل . فادعى هذا القائل أن كتاب الله يدل على أن ما أسكر فهو خمر ، ثم تلا الآية ، وليس في الآية أن السكر ما هو ولا أن السكر خمر ؛ فإن كان السكر خمرا على الحقيقة فإنما هو الخمر المستحيلة من عصير العنب ؛ لأنه قال : ومن ثمرات النخيل والأعناب ومع ذلك فإن الآية مقتضية لإباحة السكر المذكور فيها لأنه تعالى اعتد علينا فيها بمنافع النخيل والأعناب كما اعتد بمنافع الأنعام وما خلق فيها من اللبن ، فلا دلالة في الآية إذا على تحريم [ ص: 125 ] السكر ولا على أن السكر خمر ، ولو دلت على أن السكر خمر لما دلت على أن الخمر تكون من كل ما يسكر ؛ إذ فيها ذكر الأعناب التي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها ، فكانت دعواه على الكتاب غير صحيحة . وذكر من الأحاديث في ذلك ما قدمنا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف ، وقد بينا وجهه ، وذكرنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مسكر خمر و كل شراب أسكر فهو حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام ونحوها من الأخبار .

والمعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النافية لكونها خمرا وما ذكرنا من دلالة الإجماع . وقد تواترت الآثار عن جماعة من السلف شرب النبيذ الشديد ، منهم عمر وعبد الله وأبو الدرداء وبريدة ، في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة ؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من النبيذ الشديد ، في أخبار أخر ، فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمرا . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا مطين قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام فقلنا : يا ابن عباس إن هذا النبيذ الذي نشرب يسكرنا قال : ليس هكذا ، إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلال ، فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام .

حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا هوذة قال : حدثنا عوف بن سنان عن أبي الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعري قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذا إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله إنك تبعثنا إلى أرض بها أشربة منها البتع من العسل والمزر من الشعير والذرة يشتد حتى يسكر ؛ قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فقال : إنما حرم المسكر الذي يسكر عن الصلاة .

فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المحرم منه ما يوجب السكر دون غيره . وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال : حدثنا العباس بن بكار قال : حدثنا عبد الرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع ، فقال حرم الخمر بعينها والسكر من كل شراب .

وفي هذا الحديث أيضا بيان ما حرم من الأشربة سوى الخمر وهو ما يوجب السكر . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 127 ] يقول : اشربوا في الظروف ولا تسكروا ، فقوله : ( اشربوا في الظروف ) منصرف إلى ما كان حظره من الشرب في الأوعية ، فأباح الشرب منها بهذا الخبر .

ومعلوم أن مراده ما يسكر كثيره ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال : ( اشربوا الماء ولا تسكروا ) ؛ إذ كان الماء لا يسكر بوجه ما ؟ فثبت أن مراده إباحة شرب قليل ما يسكر كثيره . وأما ما روي عن الصحابة من شرب النبيذ الشديد فقد ذكرنا منه طرفا في كتاب الأشربة ، ونذكر هاهنا بعض ما روي فيه ، حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا حسين بن جعفر القتات قال : حدثنا يزيد بن مهران الخباز قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين والأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قال : ( كنا ندخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيسقينا النبيذ الشديد ) .

وحدثنا عبد الله بن الحسين الكرخي قال : حدثنا أبو عون الفرضي قال : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : كنا عند يحيى بن سعيد القطان بالكوفة وهو يحدثنا في تحريم النبيذ ، فجاء أبو بكر بن عياش حتى وقف عليه ، فقال أبو بكر : اسكت يا صبي حدثنا الأعمش بن إبراهيم عن علقمة قال : شربنا عند عبد الله بن مسعود نبيذا صلبا آخره يسكر ؛ وحدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتي بالنبيذ فشربه ، قال : عجبنا من قول أبي بكر ليحيى : ( اسكت يا صبي ) .

وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر ، فجلده عمر الحد ، فقال الأعرابي : إنما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال : ( من رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء ) ، ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه ، وقال فيه : إنه شرب منه بعدما ضرب الأعرابي وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا المعمري قال : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا معمر قال : حدثني عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك عن أم سليم وأبي طلحة : أنهما كانا يشربان نبيذ الزبيب والتمر يخلطانه ، فقيل له : يا أبا طلحة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا فقال : إنما نهى عنه للعوز في ذلك الزمان كما نهى عن الإقران .

وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير ، وقد ذكرنا منه طرفا في كتابنا ( الأشربة ) وكرهت التطويل بإعادته هنا . وما روي عن أحد من الصحابة والتابعين تحريمه الأشربة التي يبيحها أصحابنا فيما نعلمه ، وإنما روي عنهم تحريم نقيع الزبيب والتمر وما لم يرد من العصير إلى الثلث ؛ إلى أن نشأ [ ص: 127 ] قوم من الحشو تصنعوا عند العامة بالتشديد في تحريمه ولو كان النبيذ محرما لورد النقل به مستفيضا لعموم البلوى كانت به ؛ إذ كانت عامة أشربتهم نبيذ التمر والبسر ، كما ورد تحريم الخمر وقد كانت بلواهم بشرب النبيذ أعم منها بشرب الخمر لقلتها كانت عندهم ، وفي ذلك دليل على بطلان قول موجبي تحريمه . وقد استقصينا الكلام في ذلك من سائر وجوهه في ( الأشربة ) .

وأما الميسر فقد روي عن علي أنه قال : ( الشطرنج من الميسر ) وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين : ( النرد ) . وقال قوم من أهل العلم : ( القمار كله من الميسر ) .

وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه ، وهو السهام التي يجيلونها ، فمن خرج سهمه استحق منه ما توجبه علامة السهم ، فربما أخفق بعضهم حتى لا يحظى بشيء وينجح البعض فيحظى بالسهم الوافر ؛ وحقيقته تمليك المال على المخاطرة . وهو أصل في بطلان عقود التمليكات الواقعة على الأخطار ، كالهبات والصدقات وعقود البياعات ونحوها ، إذا علقت على الأخطار ، بأن يقول : ( قد بعتك إذا قدم زيد ) و ( وهبته لك إذا خرج عمرو ) لأن معنى إيسار الجزور أن يقول : من خرج سهمه استحق من الجزور كذا ، فكان استحقاقه لذلك السهم منه معلقا على الخطر . والقرعة في الحقوق تنقسم إلى معنيين :

أحدهما : تطييب النفوس من غير إحقاق واحد من المقترعين ولا بخس حظ مما اقترعوا عليه ، مثل القرعة في القسمة وفي قسم النساء وفي تقديم الخصوم إلى القاضي .

والثاني : مما ادعاه مخالفونا في القرعة بين عبيد أعتقهم المريض ولا مال له غيرهم ، فقول مخالفينا هنا من جنس الميسر المحظور بنص الكتاب لما فيه من نقل الحرية عمن وقعت عليه إلى غيره بالقرعة ، ولما فيه أيضا من إحقاق بعضهم وبخس حقه حتى لا يحظى منه بشيء واستيفاء بعضهم حقه وحق غيره ، ولا فرق بينه وبين الميسر في المعنى . وأما الأنصاب فهي ما نصب للعبادة من صنم أو حجر غير مصور ، أو غير ذلك من سائر ما ينصب للعبادة . وأما الأزلام فهي القداح ، وهي سهام كانوا يجعلون عليها علامات ( افعل ) و ( لا تفعل ) ونحو ذلك ، فيعملون في سائر ما يهتمون به من أعمالهم على ما تخرجه تلك السهام من أمر أو نهي أو إثبات أو نفي ، ويستعملونها في الأنساب أيضا إذا شكوا فيها ، فإن خرج ( لا ) نفوه ، وإن خرج ( نعم ) أثبتوه ؛ وهي سهام الميسر أيضا . وأما قوله رجس من عمل الشيطان فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يفعل به من عبادة أو تعظيم ؛ لأنه يقال ( رجس نجس ) فيراد [ ص: 128 ] بالرجس النجس ، ويتبع أحدهما الآخر ، كقولهم : ( حسن بسن ) و ( عطشان نطشان ) وما جرى مجرى ذلك . والرجز قد قيل فيه إنه العذاب في قوله تعالى : لئن كشفت عنا الرجز أي العذاب . وقد يكون في معنى الرجس كما في قوله : والرجز فاهجر وقوله : ويذهب عنكم رجز الشيطان وإنما قال تعالى : من عمل الشيطان لأنه يدعو إليه ويأمر به ، فأكد بذلك أيضا حكم تحريمها ؛ إذ كان الشيطان لا يأمر إلا بالمعاصي والقبائح والمحرمات ، وجازت نسبته إلى الشيطان على وجه المجاز ؛ إذ كان هو الداعي إليه والمزين له ، ألا ترى أن رجلا لو أغرى غيره بضرب غيره أو بسبه وزينه له جاز أن يقال له هذا من عملك ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية