الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو صلى رجل وفي ثوبه نجاسة من دم أو قيح وكان قليلا مثل دم البراغيث ، وما يتعافاه الناس لم يعد ، وإن كان كثيرا أو قليلا بولا أو عذرة أو خمرا وما كان في معنى ذلك أعاد في الوقت وغير الوقت . ( قال المزني ) . ولا يعدو من صلى بنجاسة من أن يكون مؤديا فرضه أو غير مؤد وليس ذهاب الوقت بمزيل منه فرضا لم يؤده ، ولا إمكان الوقت بموجب عليه إعادة فرض قد أداه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : هذا صحيح ، توقي الأنجاس واجب في الصلاة ، وبه قال الفقهاء ، وإن صلى بالنجاسة فصلاته باطلة ، وقال ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي ليلى : إن صلى وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة ، فصلاته جائزة ، قلت النجاسة أو كثرت أي نجاسة كانت .

                                                                                                                                            وروي عن ابن مسعود أنه نحر جزورا وأصاب ثيابه من فرثها ، ودمها ، فقام ، وصلى .

                                                                                                                                            وروي عن ابن عباس أنه قال : ليس على الثوب جنابة .

                                                                                                                                            وقال سعيد بن جبير ، اتلوا علي الآية التي فيها غسل الثوب من النجاسة ، والدلالة على ما ذهبنا إليه قوله تعالى : وثيابك فطهر والرجز فاهجر [ المدثر : 4 ، 5 ] . والرجز : النجاسة وأما قوله تعالى : وثيابك فطهر ففيه تأويلان :

                                                                                                                                            [ ص: 241 ] أحدهما : قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، أن تأويله لا تلبس ثيابك على الغدر والمعاصي ، والعرب تقول لمن غدر دنس الثوب ، ولمن وفى بعهده طاهر الثوب وقال امرؤ القيس :


                                                                                                                                            ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غران

                                                                                                                                            والثاني : أنه أراد وثيابك فقصر كي لا تنجر كبرا ، أو خيلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، وما بين ذلك إلى الكعبين فمباح وما فوق الكعبين في النار .

                                                                                                                                            والتأويل الثالث : قاله الحكم ، ومجاهد : أن معناه وعملك فأصلح . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيهما يعني : عمله الصالح ، والطالح .

                                                                                                                                            والتأويل الرابع : قال الحسن معناه : أن خلقك فحسن .

                                                                                                                                            والتأويل الخامس : أن معناه وقلبك فطهر قال الشاعر :


                                                                                                                                            وإن تك قد ساءتك مني خليقة     فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي

                                                                                                                                            يعني : قلبي من قلبك .

                                                                                                                                            والتأويل السادس : وهو الصحيح ، وبه قال محمد بن سيرين ، والفقهاء : إن معناه وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] . من النجاسة بالماء ، وهو المعمول عليه ، لأن حقيقة الثياب ما لبست ، وحقيقة الطهارة عن النجاسة فلا وجه لحمله على غير الظاهر إذا كان الظاهر جليا ، وقال عز وجل : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : من الأصنام .

                                                                                                                                            والثاني : من المشركين ، فإذا وجب تطهيره من الأصنام والمشركين مع طهارتهم كان تطهيره من الأنجاس أولى .

                                                                                                                                            وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أكثر عذاب القبر من البول وما وجب العذاب من أجله فاجتنابه واجب .

                                                                                                                                            وروت أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض : حتيه ، ثم اقرضيه ، ثم اغسليه بالماء وروت أم قيس بنت محصن أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال : اقرضيه ، واغسليه بماء وسدر فدل أمره بغسله على وجوب إزالته .

                                                                                                                                            [ ص: 242 ] فإذا تقرر هذا فالنجاسة ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما استوى حكم قليله وكثيره في المنع منه وبطلان الصلاة به وهو الغائط ، والبول ، والخمر ، وما لا يشق التحرز منه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يعني عن قدر الدرهم البغلي ، فما دونه قال : لأنها نجاسة يسيرة فوجب أن يعفى عنها قياسا على أثر الاستنجاء .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان وقت الصلاة باقيا أعاد الصلاة في قليل النجاسة ، وكثيرها وإن فات لم يعد في قليل النجاسة وكثيرها .

                                                                                                                                            واستدل بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فرأى في ثوبه لمعا من نجاسة فبعث به إلى عائشة رضي الله عنها لتغسله ، ولم ينقل أنه أعاد صلاته .

                                                                                                                                            والدلالة عليهما من طريق المعنى : على ما تقدم من الظواهر هو أنها نجاسة يمكن الاحتراز منها فوجب أن لا يعفى عنها .

                                                                                                                                            أصله مع أبي حنيفة ما زاد على الدرهم ومع مالك ما لم يخرج الوقت ، ولأن التطهير إذا أمكن من غير مشقة في محل لم يجز العفو عنه عن قدر الدرهم كأعضاء الطهارة في الحدث .

                                                                                                                                            فأما قياس أبي حنيفة على أثر الاستنجاء فغير جائز ، لأن الاستنجاء عنده غير واجب ، فكيف يكون أصلا لواجب ، لأن الحرام لا يجوز أن يقنص من أصل حلال ، ولا الحلال من أصل حرام على أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة معدول عن حكم النجاسة فلم يجز أن يقاس عليه غيره وكيف قدره أبو حنيفة بالدرهم ، وقد يختلف على اختلاف الناس في خلقتهم ، وأما ما استدل به مالك من الخبر ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه وإن لم يقض الصلاة في الحال فيجوز أن يكون قضاها بعد زمان ، لأن تعجيل القضاء على الفور ليس بواجب .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لم يعد ، لأنه لم يعلم النجاسة إلا بعد فراغه من الصلاة ، والإعادة عندنا في مثله غير واجبة في أحد القولين ، ثم أفسد مذهبه بما ذكره المزني من أن لا يعدو من صلى بنجاسته من أن يكون مؤديا فرضه ، أو غير مؤد وليس ذهاب الوقت بمزيل عنه فرضا لم يؤده ، ولا إمكان الوقت بموجب عليه إعادة فرض قد أداه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : من النجاسة ما عفي عن قليله ، ولم يعف عن كثيره ، وذلك مثل دم البراغيث ، وماء القروح ، والبثور ، والمدة إذا لم يختلط كل ذلك بدم ، لأن في التحرز من قليل ذلك مشقة غالبة ، فأما سائر الدماء سوى دم البراغيث ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا : أحدها كالأبوال لا يعفى عن قليلها وكثيرها لدفع المشقة في التحرز منها .

                                                                                                                                            [ ص: 243 ] والوجه الثاني : كدم البراغيث يعفى عن قليلها دون كثيرها .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : وهو قول أبي العباس ، وكأنه أصح : يعفى عن قليل دم الإنسان من فصاده ، أو حجامه ، أو رعافه ، أو جرحه ، ولا يعفى عن دم غيره من بهيمة ، أو آدمي ، فأما الفرق بين قليل ذلك وكثيره فلا حد له إلا ما يتعارفه الناس من القليل ، والكثير ، وقد قال الشافعي في موضع من " المبسوط " : إذا كان ماء القروح لمعة وجب إزالته .

                                                                                                                                            وقال في القديم : إذا كان كقدر الكف وجبت إزالته ، وليس ذلك مختلفا بل هو تقريب على معنى الفرق والعادة ، فإن فحش وجبت إزالته ، وإن قل عفي عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية