الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الباب الخامس: الرجوع في الهبة

        وفيه فصول:

        الفصل الأول: حكم الرجوع.

        الفصل الثاني: كيفية الرجوع، وشروطه.

        الفصل الثالث: الرجوع بالشرط، والشراء، ونحوه. [ ص: 50 ] [ ص: 51 ]

        الفصل الأول: حكم الرجوع

        وفيه مباحث:

        المبحث الأول: رجوع الوالد.

        المبحث الثاني: رجوع الإخوة على أخيهم إذا مات الأب قبل التعديل.

        المبحث الثالث: رجوع غير الوالد.

        المبحث الرابع: الرجوع في هبة الثواب. [ ص: 52 ] [ ص: 53 ]

        المبحث الأول: رجوع الوالد

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: رجوع الأب

        إذا خص الأب أحد أولاده بهبته، أو فضله في القدر الموهوب على بقية إخوته، فهل له الرجوع في هبته لتلافي ما وقع فيه من عدم العدل؟.

        اختلف أهل العلم في ذلك على الأقوال التالية:

        القول الأول: أن له الرجوع مطلقا.

        ذهب إليه المالكية، والشافعية، وأحمد في رواية عنه، وهي المذهب، والظاهرية، وهو قول الأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور. [ ص: 54 ]

        القول الثاني: أنه ليس له الرجوع.

        وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد.

        لكن عند الحنفية يجوز للأب الرجوع في حالتين يأتي بيانهما.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        1- حديث ابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما يعطي ولده".

        وجه الاستدلال: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل للوالد حق الرجوع فيما وهب لولده، ولم يفرق بين كون الولد قد قبض الموهوب له، وبين كونه لم يقبضه.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: أنه محمول على عود الوالد بطريق الشراء، أي: فيجوز للوالد أن يشتريه، والعود في الهبة بطريق الشراء -وإن كان منهيا عنه؛ خوفا من أن يستحيي الموهوب له من الواهب، فيرخص له السعر- جائز بين الوالد وولده; لأن الولد لا يستحيي عن المضايقة في الثمن، للمباسطة بينه وبين والده؛ فلذلك جاز للوالد أن يعود فيه بطريق الشراء. [ ص: 55 ]

        وأجيب عنه بجوابين:

        الأول: بأن هذا ليس بصحيح; لأن المراد بتملك الوالد هاهنا تملكه بطريق الإنفاق على نفسه، لا بطريق الشراء; لأن الشراء مما لا مساس له بالهبة فلا يناسب تأويل الحديث.

        الثاني: أن الأصل حمل الكلام على حقيقته، وحقيقة الرجوع في الهبة الرجوع فيها بغير عوض، والحقيقة لا يعدل عنها إلا بدليل معتبر.

        الوجه الثاني: أن معنى قوله "إلا الوالد" أي: ولا الوالد، فيكون الوالد كذلك منهيا عن الرجوع في هبته لولده، ويؤيد ذلك أن "إلا" ترد أحيانا بمعنى "ولا" كما في قوله تعالى: إلا الذين ظلموا منهم أي: ولا الذين ظلموا منهم، وقوله تعالى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ أي: ولا خطأ .

        وبناء على هذا فلا يكون في الحديث دليل لمن استدل به.

        وأجيب عنه بجوابين:

        الأول: بأن "إلا" لم ترد بمعنى "ولا".

        الثاني: أنه على فرض تسليم ذلك، فيمكن أن يجاب عنه: بأن الأصل في الكلام حمله على حقيقته حتى يرد ما يغيره عن ذلك، وليس في الحديث ما يدل على أن إلا ليست للاستثناء، فتبقى على أصل معناها، وهو الاستثناء. [ ص: 56 ]

        الوجه الثالث: أن الحديث ليس بمتصل، فلا يصح الاحتجاج به.

        وأجيب عنه:

        أن الحديث قد صح اتصاله.

        الوجه الرابع: أن ابن عمر -رضي الله عنه- هو راوي هذا الحديث، والأثر عن عمر -رضي الله عنه- ولو كان عند ابن عمر علم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث لما استجاز الرواية عن عمر بخلافه، ولأخبر بما عنده ليرجع إليه.

        ونوقش: صحة الحديث، والأثر، ولا تعارض بينهما; لأن الحديث خاص في رجوع الوالد، والأثر عام، فيكون رجوع الوالد مخصوصا.

        الوجه الخامس: لو سلم بصحته، وأن إلا للاستثناء فذلك على إباحته للوالد أن يأخذ ما وهب لابنه في حاجته إلى ذلك، وفقره إليه; لأن ما يجب للوالد من ذلك ليس بفعل يفعله، فيكون ذلك رجوعا منه، يكون مثله كمثل الكلب المتراجع في قيئه، ولكنه شيء أوجبه الله عز وجل له لفقره، فلم يضيق ذلك عليه، كما ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضا في غير هذا الحديث.

        (251) فقد روى مسلم من طريق عبد الله بن يزيد، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: بينا أنا جالس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أتته امرأته، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، قال: فقال: "وجب أجرك، وردها عليك الميراث". [ ص: 57 ]

        فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أباح للمتصدق صدقته لما رجعت إليه بالميراث، ومنع عمر -رضي الله عنه- من ابتياع صدقته.

        (252) روى البخاري ومسلم من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه... فسألت عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم".

        فثبت بهذين الحديثين إباحة الصدقة الراجعة إلى المتصدق بفعل الله، وكراهة الصدقة الراجعة إليه بفعل نفسه.

        فكذلك وجوب النفقة للأب من مال الابن لحاجته وفقره، وجبت بإيجاب الله تعالى إياها له.

        فأباح النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك ارتجاع هبته، وإنفاقها على نفسه، وجعل ذلك كما رجع إليه بالميراث، لا كما رجع إليه بالابتياع والارتجاع.

        وأجيب عن هذا بجوابين:

        الجواب الأول: أن الأب له أن يتملك من مال ولده على الصحيح، وإن لم يكن محتاجا.

        الجواب الثاني: أن الأب إذا احتاج لم يكن حقه فيما أعطى ولده دون سائر ماله الذي لم يعطه إياه.

        الوجه السادس: أن المراد به نفي استبداد الرجوع، أي: عدم استقلال [ ص: 58 ] الواهب بالرجوع من غير قضاء ولا رضا، إلا الوالد إذا احتاج إلى ذلك، فإنه ينفرد بالأخذ لحاجته بلا قضاء ولا رضا.

        ونوقش: بأن هذا الفهم بعيد، ولا يخفى ما فيه من تكلف ظاهر، والصحيح أن كل من له الرجوع في الهبة لا يحتاج إلى قضاء; لأنه فسخ في عقد، فلم يحتج إلى قضاء كالفسخ بخيار الشرط.

        2- حديث عائشة -رضي الله عنها- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" فقد ميز النبي -صلى الله عليه وسلم- الولد من غيره، وجعله كسبا لوالده، فكان ما كسبه الولد منه أولى أن يكون من كسبه.

        وأيضا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أجاز للأب أن يأكل من مال ولده، فلأن يسترجع ما وهب أولى.

        3- حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته؟" قال: لا، قال: "فأرجعه".

        فدل ذلك على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه، سواء أكان ذلك قبل القبض أم بعده; لأنه لم يستفسر هل النعمان قبض الهبة أو لم يقبضها ؟.

        ونوقش بأمور:

        الأمر الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بشير بن سعد بالرجوع في هبته لولده إنما [ ص: 59 ] هو لرفع الجور الذي يحصل بإمضائها، ولا دليل على الرجوع مطلقا دون سبب.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية