الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قتل المختار قتلة الحسين - عليه السلام -

وفي هذه السنة وثب المختار بمن بالكوفة من قتلة الحسين .

وكان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استوسق له الشام بعث جيشين : أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني ، وقد ذكرنا أمره وقتله ، والجيش الآخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد ، وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين ، وكان قد جعل لابن زياد ما غلب عليه ، وأمره أن ينهب الكوفة ثلاثا ، فاحتبس بالجزيرة وبها قيس عيلان مع زفر بن الحارث على طاعة ابن الزبير ، فلم يزل عبيد الله بن زياد مشتغلا بهم عن العراق نحو سنة .

فتوفي مروان وولي بعده ابنه عبد الملك بن مروان ، فأقر ابن زياد على ما كان أبوه ولاه ، وأمره بالجد في أمره .

فلما لم يمكنه في زفر ومن معه من قيس شيء أقبل إلى الموصل ، فكتب [ ص: 303 ] عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى المختار يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل ، وأنه قد تنحى له عن الموصل إلى تكريت . فدعا المختار يزيد بن أنس الأسدي ، وأمره أن يسير إلى الموصل ، فينزل بأداني أرضها حتى يمده بالجنود ، فقال له يزيد : خلني أنتخب ثلاثة آلاف فارس ، وخلني مما توجهني إليه ، فإن احتجت كتبت إليك أستمدك . فأجابه المختار ، فانتخب له ثلاثة آلاف ، وسار عن الكوفة ، وسار معه المختار والناس يشيعونه ، فلما ودعه قال له : إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم ، وإذا مكنتك الفرصة فلا تؤخرها ، وليكن خبرك كل يوم عندي ، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلي ، مع أني ممدك وإن لم تستمد ; لأنه أشد لعضدك ، وأرعب لعدوك . ودعا له الناس بالسلامة ، ودعوا له ، فقال لهم : اسألوا الله لي بالشهادة ، فوالله لئن فاتني النصر لا تفوتني الشهادة .

فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد أن خل بين يزيد وبين البلاد .

فسار يزيد إلى المدائن ، ثم سار إلى أرض جوخى والراذانات إلى أرض الموصل ، فنزل بباتلى ، وبلغ خبره ابن زياد ، فقال : لأبعثن إلى كل ألف ألفين . فأرسل ربيعة بن مخارق الغنوي في ثلاثة آلاف ، وعبد الله بن جملة الخثعمي في ثلاثة آلاف ، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم فنزل بيزيد بن أنس ( بباتلى ، فخرج يزيد بن أنس ) وهو مريض شديد المرض ، راكب على حمار يمسكه الرجال ، فوقف على أصحابه وعبأهم وحثهم على القتال ، وقال : إن هلكت فأميركم ورقاء بن العازب الأسدي ، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري ، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي ، وجعل على ميمنته عبد الله ، وعلى ميسرته سعرا ، وعلى الخيل ورقاء ، ونزل هو ، فوضع بين الرجال على سرير ، وقال : قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فروا عنه . وهو يأمر الناس بما يفعلون ، ثم يغمى عليه ، ثم يفيق .

واقتتل الناس عند فلق الصبح يوم عرفة ، واشتد قتالهم إلى ارتفاع الضحى ، فانهزم أهل الشام وأخذ عسكرهم ، وانتهى أصحاب يزيد إلى ربيعة بن مخارق وقد انهزم عنه أصحابه ، وهو نازل ينادي : يا أولياء الحق ، أنا ابن مخارق ، إنما تقاتلون العبيد الأباق ومن ترك الإسلام وخرج منه ! فاجتمع إليه جماعة ، فقاتلوا معه ، فاشتد القتال ، ثم انهزم أهل الشام وقتل ربيعة بن مخارق ، وقتله عبد الله بن ورقاء الأسدي ، وعبد الله بن ضمرة [ ص: 304 ] العذري ، فلم يسر المنهزمون غير ساعة حتى لقيهم عبد الله بن جملة في ثلاثة آلاف فرد معه المنهزمين .

ونزل يزيد بباتلى ، فباتوا ليلتهم يتحارسون ، فلما أصبحوا يوم الأضحى خرجوا إلى القتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم نزلوا فصلوا الظهر ، ثم عادوا إلى القتال ، فانهزم أهل الشام وترك ابن جملة في جماعة ، فقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله ، وحوى أهل الكوفة عسكرهم ، وقتلوا فيهم قتلا ذريعا ، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير ، وأمر يزيدبن أنس بقتلهم ، وهو بآخر رمق ، فقتلوا ، ثم مات آخر النهار ، فدفنه أصحابه وسقط في أيديهم .

وكان قد استخلف ورقاء بن عازب الأسدي ، فصلى عليه ثم قال لأصحابه : ماذا ترون ؟ إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إليكم في ثمانين ألفا ، وإنما أنا رجل منكم ، فأشيروا علي ، فإني لا أرى لنا بأهل الشام طاقة على هذه الحال ، وقد هلك يزيد وتفرق عنا بعض من معنا ، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا لقالوا : إنما رجعنا عنهم لموت أميرنا ، ولم يزالوا لنا هائبين ، وإن لقيناهم اليوم كنا مخاطرين ، فإن هزمونا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم بالأمس . فقالوا : نعم ما رأيت . فانصرفوا .

فبلغ ذلك المختار وأهل الكوفة ، فأرجف الناس بالمختار وقالوا : إن يزيد قتل ، ولم يصدقوا أنه مات . فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر ، وأمره على سبعة آلاف وقال له : سر ، فإذا لقيت جيش يزيدبن أنس فأنت الأمير عليهم ، فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد وأصحابه فتناجزهم . فخرج إبراهيم فعسكر بحمام أعين وسار ، فلما سار اجتمع أشراف الكوفة عند شبث بن ربعي وقالوا : والله إن المختار تأمر علينا بغير رضى منا ، ولقد أدنى موالينا ، فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا . وكان شبث شيخهم ، وكان جاهليا إسلاميا ، فقال لهم شبث : دعوني حتى ألقاه .

فذهب إليه ، فلم يدع شيئا أنكروه إلا ذكره له ، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار : أنا أرضيهم في هذه الخصلة ، وآتي لهم كل ما أحبوا . وذكر له الموالي ومشاركتهم في الفيء ، فقال له : إن أنا تركت مواليكم ، وجعلت فيئكم لكم ، تقاتلون معي [ ص: 305 ] بني أمية وابن الزبير ، وتعطوني على الوفاء عهد الله وميثاقه ، وما أطمئن إليه من الأيمان ؟ فقال شبث : حتى أخرج إلى أصحابي ، فأذكر لهم ذلك . فخرج إليهم ، فلم يرجع إليه ، وأجمع رأيهم على قتاله .

فاجتمع شبث بن ربعي ، ومحمد بن الأشعث ، وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس ، وشمر - حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي ، فكلموه في ذلك ، فأجابهم إليه ، فخرجوا من عنده حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف الأزدي ، فدعوه إلى ذلك ، فقال لهم : إن أطعتموني لم تخرجوا . فقالوا له : لم ؟ فقال : لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا ، ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان ، ثم معه عبيدكم ومواليكم ، وكلمة هؤلاء واحدة ، ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم ، فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم ، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام ، ( أو مجيء أهل البصرة ، فتكونوا قد كفيتموه ) بغيركم ، ولم تجعلوا بأسكم بينكم . فقالوا : ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا رأينا ، وما أجمعنا عليه ! فقال : إنما أنا رجل منكم ، فإذا شئتم فاخرجوا .

فوثبوا بالمختار بعد مسير إبراهيم بن الأشتر ، وخرجوا بالجبابين ، كل رئيس بجبانة . فلما بلغ المختار خروجهم أرسل قاصدا مجدا إلى إبراهيم بن الأشتر ، فلحقه وهو بساباط يأمره بالرجوع والسرعة ، وبعث المختار إليهم في ذلك : أخبروني ماذا تريدون ، فإني صانع كل ما أحببتم . قالوا : نريد أن تعتزلنا ، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ، ولم يبعثك . قال : فأرسلوا إليه وفدا من قبلكم ، وأرسل أنا إليه وفدا ، ثم انظروا في ذلك حتى يظهر لكم . وهو يريد أن يريثهم بهذه المقالة حتى يقدم عليه إبراهيم بن الأشتر ، وأمر أصحابه فكفوا أيديهم ، وقد أخذ عليهم أهل الكوفة بأفواه السكك ، فلا يصل إليهم شيء إلا القليل .

وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان ، فقاتله بنو شاكر قتالا شديدا ، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى ردهم عنه ، ثم أقبل فنزل عقبة مع شمر ومعه قيس عيلان في جبانة سلول ، ونزل عبد الله بن سبيع مع أهل اليمن في جبانة السبيع .

ولما سار رسول المختار وصل إلى ابن الأشتر عشية يومه ، فرجع ابن الأشتر بقية [ ص: 306 ] عشيته ( تلك ، ثم نزل حين ) أمسى ، [ فتعشى أصحابه ] وأراحوا دوابهم قليلا ، ثم سار ليلته كلها ومن الغد ، فوصل العصر وبات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة . ولما اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة ، فكره كل رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه ، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف : هذا أول الاختلاف ، قدموا الرضى فيكم سيد القراء رفاعة بن شداد البجلي . ففعلوا ، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة .

ثم إن المختار عبأ أصحابه في السوق ، وليس فيه بنيان ، فأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعي ، ومحمد بن عمير بن عطارد ، وهم بالكناسة ، وخشي أن يرسله إلى أهل اليمن ، فلا يبالغ في قتال قومه . وسار المختار نحو أهل اليمن بجبانة السبيع ، ووقف عند دار عمرو بن سعيد ، وسرح بين يديه أحمر بن شميط البجلي ، وعبد الله بن كامل الشاكري ، وأمر كلا منهما بلزوم طريق ذكره له يخرج إلى جبانة السبيع ، وأسر إليهما أن شباما قد أرسلوا إليه يخبرونه أنهم يأتون القوم من ورائهم ، فمضيا كما أمرهما .

فبلغ أهل اليمن مسيرهما ، فافترقوا إليهما ، واقتتلوا أشد قتال رآه الناس ، ثم انهزم أصحاب أحمر بن شميط وأصحاب ابن كامل ، ووصلوا إلى المختار ، فقال : ما وراءكم ؟ قالوا : هزمنا ، وقد نزل أحمر بن شميط ومعه ناس من أصحابه . وقال أصحاب ابن كامل : ما ندري ما فعل ابن كامل .

فأقبل بهم المختار نحو القوم حتى بلغ دار أبي عبد الله الجدلي ، فوقف ، ثم أرسل عبد الله بن قراد الخثعمي في أربعمائة إلى ابن كامل وقال له : إن كان قد هلك فأنت مكانه وقاتل القوم ، وإن كان حيا فاترك عنده ثلاثمائة من أصحابك ، وامض في مائة حتى تأتي جبانة السبيع ، فتأتي أهلها من ناحية حمام قطن .

فمضى فوجد ابن كامل يقاتلهم في جماعة من أصحابه قد صبروا معه ، فترك عنده ثلاثمائة رجل ، وسار في مائة حتى أتى مسجد عبد القيس ، وقال لأصحابه : إني أحب أن يظهر المختار ، وأكره أن تهلك أشراف عشيرتي اليوم ، ووالله لأن أموت أحب إلي من أن يهلكوا على يدي ، ولكن قفوا ، فقد سمعت أن شباما يأتونهم من ورائهم ، فلعلهم يفعلون ذلك ونعافى نحن منه . فأجابه إلى ذلك ، فبات عند مسجد عبد القيس .

[ ص: 307 ] وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي ، وكان شجاعا ، وعبد الله بن شريك النهدي في أربعمائة إلى أحمر بن شميط ، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروه ، فاشتد قتالهم عند ذلك .

وأما ابن الأشتر ، فإنه مضى إلى مضر فلقي شبث بن ربعي ومن معه ، فقال لهم إبراهيم : ويحكم انصرفوا ، فما أحب أن يصاب من مضر على يدي . فأبوا وقاتلوه ، فهزمهم ، وجرح حسان بن فائد العبسي ، فحمل إلى أهله فمات ، فكان مع شبث ، وجاءت البشارة إلى المختار بهزيمة مضر ، فأرسل إلى أحمر بن شميط وابن كامل يبشرهما ، فاشتد أمرهما .

فاجتمع شبام ، وقد رأسوا عليهم أبا القلوص ، ليأتوا أهل اليمن من ورائهم ، فقال بعضهم لبعض : لو جعلتم جدكم على مضر وربيعة لكان أصوب ، وأبو القلوص ساكت ، فقالوا : ما تقول ؟ فقال : قال الله - تعالى - : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار . فساروا معه نحو أهل اليمن ، فلما خرجوا إلى جبانة السبيع لقيهم على فم السكة الأعسر الشاكري ، فقتلوه ونادوا في الجبانة ، وقد دخلوها : يا لثارات الحسين ! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران الهمداني فقال : يا لثارات عثمان ! فقال لهم رفاعة بن شداد : ما لنا ولعثمان ! لا أقاتل مع قوم يبغون دم عثمان . فقال له ناس من قومه : جئت بنا وأطعناك ، حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت : انصرفوا ودعوهم ! فعطف عليهم وهو يقول ، شعر :

أنا ابن شداد على دين علي لست لعثمان بن أروى بولي     لأصلين اليوم فيمن يصطلي
بحر نار الحرب غير مؤتل



فقاتل حتى قتل .

وكان رفاعة مع المختار ، فلما رأى كذبه أراد قتله غيلة ، قال : فمنعني قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من ائتمنه رجل على دمه فقتله ، فأنا منه بريء .

[ ص: 308 ] فلما كان هذا اليوم قاتل مع أهل الكوفة ، فلما سمع يزيد بن عمير يقول : يا لثارات عثمان - عاد عنهم ، فقاتل مع المختار حتى قتل ، وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران ، والنعمان بن صهبان الجرمي ، وكان ناسكا ، وقتل الفرات بن زحر بن قيس ، وجرح أبوه زحر ، وقتل عبد الله بن سعيد بن قيس ، وقتل عمر بن مخنف ، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى جرح ، وحملته الرجال على أيديهم وما يشعر ، وقاتل حوله رجال من الأزد ، وانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة ، وأخذ من دور الوادعيين خمسمائة أسير ، فأتى بهم المختار مكتفين ، فأمر المختار بإحضارهم وعرضهم عليه ، وقال : انظروا من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني . فقتل كل من شهد قتل الحسين ، فقتل منهم مائتين وثمانية وأربعين قتيلا ، وأخذ أصحابه يقتلون كل من كان يؤذيهم .

فلما سمع المختار بذلك أمر بإطلاق كل من بقي من الأسارى ، وأخذ عليهم المواثيق أن لا يجامعوا عليه عدوا ، ولا يبغوه وأصحابه غائلة ، ونادى منادي المختار : من أغلق بابه فهو آمن ، إلا من شرك في دماء آل محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين ، فركب راحلته وأخذ طريق واقصة ، فلم ير له خبر حتى الساعة ، وقيل : أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدة العطش ، فذبحوه وأخذوا رأسه .

ولما قتل فرات بن زحر بن قيس أرسلت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية ، وكانت امرأة الحسين ، إلى المختار تسأله أن يأذن لها في دفنه ، ففعل ، فدفنته .

وبعث المختار غلاما له يدعى زربى ( في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه ، فلما دنوا منه قال شمر لأصحابه : تباعدوا عني ، لعلي يطمع في ، فتباعدوا عنه ، فطمع زربى عن أصحابه ، ثم حمل عليه شمر فقتله ، وسار شمر حتى نزل ( مساء ساتيدما ، ثم سار حتى نزل ) منه قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر إلى جانب تل ، ثم أرسل إلى أهل تلك القرية ، فأخذ منها علجا فضربه وقال : امض بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير . فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة صاحب المختار ، وكان قد أرسله المختار إلى تلك القرية ليكون مسلحة بينه وبين أهل البصرة ، فلقي ذلك [ ص: 309 ] العلج علجا آخر من تلك القرية ، فشكا إليه ما لقي من شمر ، فبينا هو يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبي الكنود ، فرأى الكتاب وعنوانه : لمصعب بن الزبير من شمر ، فقالوا للعلج : أين هو ؟ فأخبرهم ، فإذا ليس بينه وبينهم إلا ثلاثة فراسخ ، قال : فأقبلوا يسيرون إليه . وكان قد قال لشمر أصحابه : لو ارتحلت بنا من هذه القرية ، فإنا نتخوف بها ، فقال : أوكل هذا فزعا من الكذاب ؟ ! والله لا أتحول منها ثلاثة أيام ، ملأ الله قلوبكم رعبا . فإنهم لنيام إذ سمع وقع الحوافر ، فقالوا في أنفسهم : هذا صوت الدبا . ثم اشتد ، فذهب أصحابه ليقوموا فإذا بالخيل قد أشرفت من التل ، فكبروا وأحاطوا بالأبيات ، فولى أصحابه هاربين وتركوا خيولهم ، وقام شمر وقد اتزر ببرد ، وكان أبرص ، فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح ، وقد عجلوه عن لبس ثيابه وسلاحه ، وكان أصحابه قد فارقوه ، فلما أبعدوا عنه سمعوا التكبير وقائلا يقول : قتل الخبيث ، قتله ابن أبي الكنود . وهو الذي رأى الكتاب مع العلج ، وألقيت جثته للكلاب ، قال : وسمعته بعد أن قاتلنا بالرمح ، ثم ألقاه وأخذ السيف ، فقاتلنا به وهو يرتجز ، شعر :

نبهتم ليث عرين باسلا     جهما محياه يدق الكاهلا
لم ير يوما عن عدو ناكلا     إلا كذا مقاتلا أو قاتلا
يبرحهم ضربا ويروي العاملا

وأقبل المختار إلى القصر من جبانة السبيع ومعه سراقة بن مرداس البارقي أسيرا فناداه ، شعر : امنن علي اليوم يا خير معد ( وخير من حل بشحر والجند ) [ ص: 310 ] وخير من لبى وحيا وسجد

فأرسله المختار إلى السجن ثم أحضره من الغد ، فأقبل إليه وهو يقول ، شعر :

ألا أبلغ أبا إسحاق أنا     نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا     وكان خروجنا بطرا وحينا
لقينا منهم ضربا طلحفا     وطعنا صائبا حتى انثنينا
نصرت على عدوك كل يوم     بكل كتيبة تنعى حسينا
كنصر محمد في يوم بدر     ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا     لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني     سأشكر إن جعلت النقد دينا



قال : فلما انتهى إلى المختار قال : أصلح الله الأمير ، أحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض . فقال له المختار : اصعد المنبر فأعلم الناس . فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل ، فخلا به [ المختار ] فقال له : إني قد علمت أنك لم تر شيئا ، وإنما أردت ما قد عرفت أن لا أقتلك ، فاذهب عني حيث شئت لا تفسد علي أصحابي . فخرج إلى البصرة فنزل عند مصعب وقال ، شعر :

ألا أبلغ أبا إسحاق أني     رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا     علي قتالكم حتى الممات
أري عيني ما لم تبصراه     كلانا عالم بالترهات



[ ص: 311 ] وقتل يومئذ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني ، وادعى قتله سعر بن أبي سعر ، وأبو الزبير الشبامي ، وشبام ، من همدان ، ورجل آخر ، فقال ابن عبد الرحمن لأبي الزبير الشبامي : أتقتل أبي عبد الرحمن سيد قومك ؟ فقرأ : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية .

وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه ، وكان أكثر القتل ذلك اليوم في أهل اليمن . وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين .

وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة ، وتجرد المختار لقتلة الحسين ، وقال : ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء ، بئس ناصر آل محمد - صلى الله عليه وسلم - أنا إذا في الدنيا ، أنا إذا الكذاب كما سموني ، وإني أستعين بالله عليهم فسموهم لي ، ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم ، فإني لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم . فدل على عبد الله بن أسيد الجهني ، ومالك بن بشير البدي ، وحمل بن مالك المحاربي ، فبعث إليهم المختار فأحضرهم من القادسية ، فلما رآهم قال : يا أعداء الله ورسوله ! أين الحسين بن علي ؟ أدوا إلي الحسين ، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليهم . فقالوا : رحمك الله ! بعثنا كارهين فامنن علينا واستبقنا . فقال لهم : هلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم فاستبقيتموه وسقيتموه ؟ وكان البدي صاحب برنسه ، فأمر بقطع يديه ورجليه ، وترك يضطرب حتى مات ، وقتل الآخرين ، وأمر بزياد بن مالك الضبعي ، وبعمران بن خالد القشيري ، وبعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي ، وبعبد الله بن قيس الخولاني ، فأحضروا عنده ، فلما رآهم قال : يا قتلة الصالحين ، وقتلة سيد شباب أهل الجنة ، قد أقاد الله منكم اليوم ، لقد جاءكم الورس في يوم نحس .

وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين . ثم أمر بهم فقتلوا .

وأحضر عنده : عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخت ، وعبد الله بن وهب بن عمرو الهمداني ، وهو ابن عم أعشى همدان ، فأمر بقتلهم ، فقتلوا ، وأحضر عنده : عثمان بن خالد بن أسيد الدهماني الجهني ، وأبو أسماء بشر بن شميط القانصي ، وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه ، فضرب أعناقهما ، وأحرقا بالنار .

[ ص: 312 ] ثم أرسل إلى خولي بن يزيد الأصبحي ، وهو صاحب رأس الحسين ، فاختفى في مخرجه ، فدخل أصحاب المختار يفتشون عنه ، فخرجت امرأته ، واسمها العيوف بنت مالك ، وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين ، فقالت لهم : ما تريدون ؟ فقالوا لها : أين زوجك ؟ قالت : لا أدري ، وأشارت بيدها إلى المخرج ، فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قوصرة ، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله ، وأحرقوه بالنار .

التالي السابق


الخدمات العلمية