الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ هل يجوز أن يقلد الفتوى المتفقه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة ] الفائدة الحادية والعشرون :

إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أو أكثر ، وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف ، والاستنباط والترجيح فهل يسوغ تقليده في الفتوى ؟ فيه للناس أربعة أقوال : الجواز مطلقا ، والمنع مطلقا ، والجواز عند عدم المجتهد ، ولا يجوز مع وجوده ، والجواز إن كان مطلعا على مأخذ من يفتي بقولهم ، والمنع إن لم يكن مطلعا .

[ ص: 151 ] والصواب فيه التفصيل ، وهو أنه إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا ، ولا يحل لهذا أن ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم ، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم ، أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته ، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها .

ونظير هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض ، وولى الأمثل فالأمثل ، ونظير هذا لو كان الفسق هو الغالب على أهل تلك البلد ، وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض ، وشهادته له تعطلت الحقوق وضاعت قبل شهادة الأمثل فالأمثل .

ونظيرها لو غلب الحرام المحض أو الشبهة حتى لم يجد الحلال المحض فإنه بتناول الأمثل بالأمثل ، ونظير هذا لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو عرض أو مال ، وهن منفردات ، بحيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس ، قبلت شهادة الأمثل فالأمثل منهن قطعا ، ولا يضيع الله ورسوله حق المظلوم ، ولا يعطل إقامة دينه في مثل هذه الصورة أبدا ، بل قد نبه الله تعالى على القبول في مثل هذه الصورة بقبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة أنزلت في القرآن ، ولم ينسخها شيء ألبتة ، ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة ولا أجمعت الأمة على خلافه ، ولا يليق بالشريعة سواه .

فالشريعة شرعت لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان ، وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أسباب تلك الحقوق شاهدان حران ذكران عدلان ؟ بل إذا قلتم : تقبل شهادة الفساق حيث لا عدل ، وينفذ حكم الجاهل والفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عالم عادل ، فكيف لا تقبل شهادة النساء إذا خلا جمعهن عن رجل ، أو شهادة العبيد إذا خلا جمعهم عن حر ، أو شهادة الكفار بعضهم على بعض إذا خلا جمعهم عن مسلم ؟ وقد قبل ابن الزبير شهادة الصبيان بعضهم على بعض في تجارحهم ، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة ، وقد قال به مالك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى في إحدى الروايتين عنه حيث يغلب على الظن صدقهم بأن يجيبوا قبل أن يجتنبوا أو يتفرقوا إلى بيوتهم ، وهذا هو الصواب ، وبالله التوفيق .

وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين ; فقد منع كثير منهم الفتوى [ ص: 152 ] والحكم بالتقليد ، وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد كما قال أبو إسحاق بن شاقلا - وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي ينبغي له أن يحفظ أربعمائة ألف حديث ثم يفتي - فقال له الرجل : أنت تحفظ هذا ؟ فقال : إن لم أحفظ هذا فأنا أفتي بقول من كان يحفظه ، وقال [ أبو الحسن بن بشار من كبار أصحابنا : ما ضر رجلا عنده ثلاث مسائل أو أربع من فتاوى الإمام أحمد يستند إلى هذه السارية ويقول : قال أحمد بن حنبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية