الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1111 [ ص: 19 ] حديث ثان لمحمد بن يحيى بن حبان .

مالك عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه .

التالي السابق


قال أبو عمر : هذا حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي عن أبي هريرة من وجوه ، ورواه أيضا ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

والمعنى فيه عند أهل العلم بالحديث أن الخاطب إذا ركن إليه وقرب أمره ، ومالت النفوس بعضها إلى بعض في ذلك ، وذكر الصداق ونحو ذلك لم يجز لأحد حينئذ الخطبة على رجل قد تناهت حاله وبلغت ما وصفنا .

والدليل على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خطب لأسامة بن زيد فاطمة بنت قيس إذ أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها ، ولم ينكر أيضا خطبة واحد منهما وخطبها على خطبتهما إذ لم يكن من فاطمة ركون وميل ، والله أعلم .

وهذا الباب يجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسم أحدكم على سوم [ ص: 20 ] أخيه ) ألا ترى أنه لو ترك البائع مع أول مساوم لأخذ السلعة بما شاء ، ولكان في ذلك ضرر بين داخل على الناس ؟ .

وقد فسر مالك والشافعي وأبو عبيد هذا الحديث بمعنى ما ذكرناه ، ومعلوم أن الحال التي أجاز فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخطبة لأسامة في الحديث المذكور غير الحال التي نهى أن يخطب فيها الرجل على خطبة أخيه ، وإذا كان ذلك كذلك فالوجه فيه ما وصفنا ، إن شاء الله تعالى .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا المعلى بن منصور قال : حدثنا الليث بن سعد عن أبي الزبير قال : سألت عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو بن حفص عن طلاق جده فاطمة بنت قيس فقال عبد الحميد : طلقها البتة ، ثم خرج إلى اليمن ، وذكر الحديث ، وفيه : فانتقلت إلى ابن أم مكتوم حتى حلت فخطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم بن حذيفة ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أما معاوية فغلام من غلمان قريش لا يملك شيئا ، وأما أبو جهم بن حذيفة فإني أخاف عليك عصاه ، ولكن إن شئت دللتك على رجل : أسامة بن زيد ، قالت : نعم يا رسول الله ، فزوجها أسامة بن زيد .

ففي هذا الحديث أوضح الدلالة على معنى النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ، وأن الوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم .

[ ص: 21 ] وذكر ابن وهب قال : أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه عن عبيد الله بن سعد عن الحارث بن أبي ذباب أن جريرا البجلي أمره عمر بن الخطاب أن يخطب امرأة من دوس ، ثم أمره مروان بن الحكم من بعد ذلك أن يخطبها ( عليه ) ثم أمره عبد الله بن عمر بعد ذلك فدخل عليها فأخبرها بهم : الأول فالأول ، ثم خطبها لنفسه فقالت : والله ما أدري أتلعب أم أنت جاد ؟ قال : بل جاد فنكحته وولدت له ولدين .

وهذا يبين لك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ، أنه كما قال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء : إن ذلك أن تركن إليه ويتراضيا ويتفقا على صداق معلوم ، وهي تشترط لنفسها ونحو ذلك مما تعلم به الموافقة والركون ، والله أعلم .

وذكر إسماعيل ( بن ) أبي أويس قال : سئل مالك عن رجل خطب امرأة وركنت إليه واتفقا على صداق معروف حتى صارت من ( اللواتي ) [ ص: 22 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخطب الرجل على خطبة أخيه قال : قال مالك : إذا كان ( هكذا ) فملكها رجل آخر ولم يدخل بها ، فإنه يفرق بينهما ، وإن دخل بها مضى ( النكاح ) وبيسما صنع حين خطب امرأة نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تخطب على ( تلك ) الحال . قال : وسمعت مالكا يقول : أكره إذا بعث الرجل رجلا يخطب له امرأة أن يخطب الرسول لنفسه ، وأراها خيانة ، قال : ولم أسمع أحدا أرخص في ذلك .

قال أبو عمر : ذلك عندي على أنه لم يذكر الرجل المرسل له ، ولو ذكره وذكر نفسه لم يكن بذلك بأس على حديث عمر المذكور ، والله أعلم .

ولم يختلف العلماء في أنه إذا لم يكن ركون ولا رضى أن النكاح جائز ، واختلفوا إذا وقع النكاح مع الثاني بعد الركون إلى الأول والرضى به ; فقول مالك ما ذكرنا وقد روي عنه أنه يفسخ على كل حال ، وروي عنه أنه لا يفسخ أصلا ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وقول الشافعي أنه لا يفسخ ، واختلف عنه : هل هو عاص بفعله ذلك أم لا ؟ [ ص: 23 ] وقال داود : يفسخ النكاح على كل حال ، وقال ابن القاسم : إذا تزوج الرجل المرأة بعد أن ركنت إلى غيره فدخل بها ( فإنه ) يتحلل الذي خطبها عليه ، ويعرفه بما صنع فإن حلله ، وإلا فليستغفر الله من ذلك ، وليس يلزمه طلاقها وقد أثم فيما فعل ، وقال ابن وهب : إن لم يجعله الأول في حل مما صنع فليطلقها ، فإن رغب فيها الأول وتزوجها فقد برئ هذا من الإثم ، وإن كره تزويجها فليراجعها الذي فارقها بنكاح جديد ، وليس يقضي عليه بالفراق ، وقال ابن القاسم : إنما معنى النهي في أن يخطب الرجل على خطبة أخيه في رجلين صالحين ، وأما إذا كان الذي خطبها أولا فركنت إليه رجل سوء ، فإنه ينبغي للولي أن يحضها على تزويج الرجل الصالح الذي يعلمها الخير ويعينها عليه .

( قال أبو عمر : تحصيل مذهب مالك في نكاح من خطب على خطبة أخيه في الحال الذي لا يجوز له أن يخطب فيها أنه إن لم يكن دخل ( بها ) فرق بينهما ، وإن كان دخل مضى النكاح ، وبئس ما صنع ) .

[ ص: 24 ] وقال الشافعي : هي مصيبة ، ويستغفر الله منها ، والنكاح ثابت دخل أو لم يدخل ، وهو مع هذا مكروه لا ينبغي لأحد أن يفعله ، وبمثل ما قال الشافعي يقول أبو حنيفة وأصحابه وجماعة ، وهو القياس ; لأن النكاح لو كان فاسدا محرما ، غير منعقد لم يصح بالدخول ، وعلى أصل مالك إنما يصح بالدخول من النكاح ما كان فساده في الصداق ، وأما ما كان فساده في العقد فمحال أن يصح بالدخول ، والنكاح مفتقر إلى صحة العقد ، وقد ينعقد مع السكوت عن الصداق فافهم .

( وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة هذا في النهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ألفاظ زائدة ، وهي في معنى ما ذكرنا لا تخالفه إن شاء الله ) .

حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا المعلى بن منصور قال : حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك .

[ ص: 25 ] وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثني أبو كثير : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يستام الرجل على سوم أخيه ، حتى يشتري أو يترك ، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك .

وقد رويت أيضا في حديث ابن عمر في ذلك ألفاظ سنذكرها في باب نافع من كتابنا هذا إن شاء الله .




الخدمات العلمية