الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا تبين ذلك فالله سبحانه إذا أحب شيئا، فإن أحبه لأجل نفسه تعالى وجب أن تكون نفسه هي المحبوبة، حتى يصح أن يحب الغير لأجلها، ولا يمتنع أن يحب شيئا لأجل شيء إن لم تكن الغاية هي المحبوبة ابتداء.

وهكذا كل من فعل شيئا لكذا، فإنه يحب أن يكون المفعول له هو المراد ابتداء، وهذه هي العلة الغائية، وهي متقدمة في الإرادة [ ص: 106 ] والقصد، ولكونها مرادة ابتداء صار الفعل المؤدي إليها مرادا، وإن قدر أنه تعالى يحب شيئا لذات ذلك الشيء، فمن المعلوم أنه هو الذي خلق تلك الذات، وجعلها على الوجه الذي يحبه هو، فإذا كان محب المحبوب محبوب ، فكيف بفاعل المحبوب ومبدعه وخالقه؟ فقد وجب أن تكون محبته لنفسه هي الأصل في القسمين، في الأول من جهة الغاية، وفي الثاني من جهة السبب، من جهة الألوهية، ومن جهة الربوبية.

الوجه الثاني: أنه يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بما يحبه، كما ثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة، ومحبة محب الشيء ومحبة المتقرب إلى الشيء والساعي في مراضي الشيء، تبع وفرع على محبة ذلك الشيء محبوبا، امتنع أن يحب محبه ، ويحب من يتقرب إليه بمحابه، ويسعى في مراضيه، وإذا كان الله يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بمحابه ويسعى في مراضيه، كان هو أحق بأن يكون هو المحبوب لنفسه المرضي، إذ هو المحبوب المقصود بالقصد الأول.

الوجه الثالث: أنه يبغض ويمقت أعيانا وأفعالا، والموجود لا يبغض إلا لكونه مانعا من المحبوب. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع في "قاعدة المحبة" ، وبينا أن البغض تبع للحب، وأن الحب هو الأصل، فإذا كان بغضه لأمور مستلزما محبته لأضدادها، فمحبة تلك الأمور مستلزمة محبته لنفسه، كما تقدم. [ ص: 107 ]

الوجه الرابع: أنه يحب من يبغض تلك الأمور، ويجاهد أهلها، قال الله تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، وإنما أحبهم لإعانتهم على حصول محبوبه، فتكون محبته لنفسه التي أحب من أعان على محبوبها أولى وأحرى.

فإن قيل: فتلك الأمور التي يبغضها هو خلقها بإرادته، فكيف يريد ما يبغضه؟

فيقال: الشيء الواحد [قد] يكون مرادا من وجه، مكروها من وجه، كما يوجد في حقنا شرب الأدوية الكريهة، فإنها مكروهة من جهة إيلامها لنا، مرادة من جهة تحصيلها للدنيا في المستقبل، وهو سبحانه إنما خلق الحوادث وأرادها لحكمة فيها، فتلك الغاية التي هي الحكمة هي محبوبة له مرضية، وإن كان بعض ما هو وسيلة إليها قد يكون مكروها مبغضا مع كونه مرادا، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.

وأما المأمورات فهي كلها محبوبة بتقدير وجودها، إذ هي الغايات، لكن قد يريد أن تكون إذا كانت الغاية المترتبة عليها مما يحبه ويرضاه، وقد لا يريد أن تكون في بعض الصور، وإن كانت لو وقعت لأحبها، لأن وجودها قد يكون مستلزما لوقوع ما يبغضه ويكرهه، فكما أن المكروه قد يراد وقوعه لأنه وسيلة إلى المحبوب، فالمحبوب [ ص: 108 ] لا يراد وقوعه [لأنه] وسيلة إلى مكروه، وإن كان لو تجرد عن تلك السيئة كان محبوبا، كما قد يقال في قوله: ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ، وإن كان ذلك الانبعاث هو المأمور به، وإلا فيكون مكروها لنفسه إذا لم يكن على الوجه المأمور به.

لكن قوله: فثبطهم هو دليل على أنه كره وقوعه كونا، لما فيه من الشر بالمؤمنين، وذلك يقتضي أنه لو تجرد عن هذه العاقبة لم يكن وقوعه مكروها له كونا، ولم يكن يثبط عنه، بل غايته أن يكون بمنزلة ما يقع من المعاصي المكروهة، فإنه قد لا يثبط عنها إذا كانت مفضية إلى ما يحبه. وأما هذا فثبط عنه لإفضائه إلى ما يكرهه بالمؤمنين.

وهذا باب فيه بسط وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع، وهو من المقامات الشريفة الهائلة، التي اضطرب فيها الأولون والآخرون، مسألة اجتماع الشرع والقدر، وإنما المقصود هنا بيان أنه سبحانه هو المقصود المراد المحبوب لنفسه مما فعله خلقا وأمرا، وبهذا يتبين أن حقه على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا، ويظهر الفرق بين ما أمر به لأنه حق له، وبين ما أمر به لينتفع به العامل، وإن كانا متلازمين، كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن يظهر الفرق بحسب القصد الأول، فإذا كان حقه على عباده أن يعبدوه، وهو يستحق ذلك عليهم، علم أنه يحب ذلك ويطلبه ويريده منهم إرادة دينية. ومن أحب حقه على غيره، وأنه يعطيه حقه، فمن المعلوم أنه لولا أنه يحب نفسه التي [ ص: 109 ] لها الحق وإلا لما تصور أن يكون له حق، ولهذا الإنسان إنما يطلب حقوقه التي يحبها ويرضاها، ولولا تعلق المحبة والرضى بتلك الأمور لما عقل كونها حقوقا.

ومن هذا الباب أنه يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فهذا المثال فيه أنه فقد ما يحتاج إليه وتقوم به نفسه من المنفعة التي لا بد له منها، وهي الطعام والشراب، وما يدفع به المضرة، وهو الركوب للخلاص من تلك المفازة. ومعلوم أنه لولا محبته لنفسه لما أحب ما يجلب إليها من المنفعة، ويدفع عنها من المضرة. فإذا كان فرح الرب بتوبة التائب أعظم من ذلك، وهو سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فمعلوم أن الفرح العظيم بحصول الشيء المحبوب فرع على المحبة العظيمة له، ومحبة المحبوب فرع على محبة النفس التي كان لها ذلك محبوبا.

التالي السابق


الخدمات العلمية