الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ما جرى له مع بلقيس

نذكر أولا ما قيل في نسبها وملكها ، ثم ما جرى له معها ، فنقول قد اختلف العلماء في اسم آبائها ، فقيل : إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وقيل : هي بلقمة ابنة هادد ، واسمه ليشرح بن تبع ذي الأذعار بن تبع ذي المنار بن تبع الرايش ، وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره .

[ ص: 202 ] وقد اختلف الناس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان ، اختلافا لا يحصل الناظر فيه على طائل ، وكذا أيضا اختلفوا في نسبها اختلافا كثيرا ، وقال كثير من الرواة : إن أمها جنية ابنة ملك الجن واسمها رواحة بنت السكن . وقيل : اسم أمها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجني ، وإنما نكح أبوها إلى الجن لأنه قال : ليس في الإنس لي كفوة ، فخطب إلى الجن فزوجوه .

واختلفوا في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم فقيل : إنه كان لهجا بالصيد ، فربما اصطاد الجن على صور الظباء فيخلي عنهن فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا ، فخطب ابنته ، فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن ، وقيل : إن أباها خرج يوما متصيدا فرأى حيتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فأمر بقتل السوداء ، وحمل البيضاء وصب عليها الماء ، فأفاقت ، فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفردا ، وإذا معه شاب جميل ، فذعر منه ، فقال له : لا تخف أنا الحية التي أنجيتني ، والأسود الذي قتلته غلام لنا تمرد علينا وقتل عدة من أهل بيتي ، وعرض عليه المال وعلم الطب ، فقال : أما المال فلا حاجة لي به ، وأما الطب فهو قبيح بالملك ، ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها ، فزوجه على شرط أن لا يغير عليها شيئا تعمله ومتى غير عليها فارقته ، فأجابه إلى ذلك ، فحملت منه فولدت له غلاما فألقته في النار فجزع لذلك وسكت للشرط ، ثم حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها ، فعظم ذلك عليه وصبر للشرط ، ثم إنه عصى عليه بعض أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه ، فانتهى إلى مفازة ، فلما توسطها [ ص: 203 ] رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب ، وإذا الماء يصب من القرب والمزاود . فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنه من فعال الجن عن أمر زوجته فضاق ذرعا عن حمل ذلك ، فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال : يا أرض ، صبرت لك على إحراق ابني وإطعام الكلبة ابنتي ، ثم أنت الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك !

فقالت المرأة : لو صبرت لكان خيرا لك ، وسأخبرك : إن عدوك خدع وزيرك فجعل السم في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك ، فمر وزيرك ليشرب من الماء ويأكل من الزاد ، فأمره فامتنع ، فقتله ، ودلتهم على الماء والميرة من قريب وقالت : أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيه وقد مات ، وأما ابنتك فهي باقية ، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض ، وهي بلقيس ، وفارقته امرأته وسار إلى عدوه فظفر به .

وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك ، والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة .

وأما ملكها اليمن فقيل : إن أباها فوض إليها الملك فملكت بعده ، وقيل : بل مات عن غير وصية بالملك لأحد فأقام الناس ابن أخ له ، وكان فاحشا خبيثا فاسقا لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلا أحضرها وفضحها ، حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمه ، فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها إلى قصرها وأعدت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها ، فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه . فلما قتل أحضرت وزراءه فقرعتهم ، فقالت : أما كان فيكم من يأنف لكريمته ، وكرائم عشيرته ! ثم أرتهم إياه قتيلا ، وقالت : اختاروا رجلا تملكونه . فقالوا : لا نرضى بغيرك ، فملكوها .

وقيل : إن أباها لم يكن ملكا ، وإنما كان وزير الملك ، وكان الملك خبيثا ، قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال ، والأعيان ، والأشراف ، وإنها قتلته ، فملكها الناس عليهم .

وكذلك أيضا عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل : كان تحت يدها أربعمائة ملك ، كل ملك منهم على كورة ، مع كل ملك منهم أربعة آلاف مقاتل ، وكان لها ثلاثمائة وزير يتدبرون ملكها ، وكان لها اثنا عشر قائدا يقود كل قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل .

[ ص: 204 ] وبالغ آخرون مبالغة تدل على سخف عقولهم وجهلهم ، قالوا : كان لها اثنا عشر ألف قيل ، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل ، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش ، في كل جيش سبعون ألف مبارز ، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة . وما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله ، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف ، فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم ، شبابهم وشيوخهم ، وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد ، فكيف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة ! فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم ، وكم تكون الرعية وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك ، وإنما الجند بعض أهل البلاد ، وإن كان الحاصل من اليمن قد قل في زماننا فإن رقعة أرضه لم تصغر ، وهي لا تسع هذا العدد قياما كل واحد إلى جانب الآخر .

ثم إنهم قالوا : أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب ، وقالوا غير ذلك ، وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها ، فلا نطول بذكره . وقد تواطئوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم ، وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحق .

وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره ، وإنما طلبه لأن الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا ، وهل هو قريب أم بعيد ، فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده ، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره . وقيل : بل نزلت الشمس إلى سليمان ، فنظر ليرى من أين نزلت لأن الطير كانت تظله ، فرأى موضع الهدهد فارغا ، فقال : لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين .

[ ص: 205 ] وكان الهدهد قد مر على قصر بلقيس فرأى بستانا لها خلف قصرها ، فمال إلى الخضرة ، فرأى فيه هدهدا فقال له : أين أنت عن سليمان وما تصنع ههنا ؟ فقال له : ومن سليمان ؟ فذكر له حاله وما سخر له من الطير وغيره ، فعجب من ذلك . فقال له هدهد سليمان : وأعجب من ذلك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم . وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه ، وكان عرشها سريرا من ذهب ، مكلل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ .

ثم إن الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره ، فقال له : اذهب بكتابي هذا فألقه إليها ، فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها ، فأخذته وقرأته ، وأحضرت قومها وقالت : إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ياأيها الملأ . . . . ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون

قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت وإني مرسلة إليهم بهدية فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعز منه وأقوى ، وإن لم يقبلها فهو نبي من الله .

فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل : أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم - إلى قوله - : وهم صاغرون ، فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وأخذت معها الأقيال من قومها ، وهم القواد ، وقدمت عليه ، فلما قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه : أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، [ ص: 206 ] يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغداء . قال سليمان : أريد أسرع من ذلك . فـ قال الذي عنده علم من الكتاب - وهو آصف بن برخيا ، وكان يعرف اسم الله الأعظم - أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ، وقال له انظر إلى السماء وأدم النظر فلا ترد طرفك حتى أحضره عندك . وسجد ودعا ، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سريره ، فقال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر إذ أتاني به قبل أن يرتد إلي طرفي أم أكفر إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره .

فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك قالت كأنه هو ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء إلى ههنا ؟

فقال سليمان للشياطين : ابنوا لي صرحا تدخل علي فيه بلقيس . فقال بعضهم : إن سليمان قد سخر له ما سخر وبلقيس ملكة سبإ ينكحها فتلد غلاما فلا ننفك من العبودية أبدا ، وكانت امرأة شعراء الساقين ، فقال للشياطين : ابنوا له بنيانا يرى ذلك منها فلا يتزوجها ، فبنوا له صرحا من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض ، فبقي كأنه الماء ، وجعلوا تحت الطوابيق صور دواب البحر من السمك وغيره ، وقعد سليمان على كرسي ، ثم أمر فأدخلت بلقيس عليه ، فلما أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل ، فلما رآها سليمان صرف نظره عنها و قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .

فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضر الجسد ، فعمل له الشياطين النورة ، فهي أول ما عملت النورة ، [ ص: 207 ] ونكحها سليمان وأحبها حبا شديدا وردها إلى ملكها باليمن ، فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام .

وقيل : إنه أمرها أن تنكح رجلا من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك فقال : لا يكون في الإسلام إلا ذلك . فقالت : إن كان لا بد من ذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان ، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن ، وسلط زوجها ذا تبع على الملك ، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته ، فاستعملهم ذو تبع ، فعملوا له عدة حصون باليمن ، منها سلحين ، ومراوح ، وفليون ، وهنيدة ، وغيرها ، فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبع وانقضى ملك ذي تبع ، وملك بلقيس مع ملك سليمان .

وقيل : إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنه دفنها بتدمر ، وأخفى قبرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية