الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة

                                                          في الآية السابقة ذكر الله كفر من قالوا: إن الله هو المسيح أو ما يؤدي إليه من القول بأن المسيح ابن الله، وفي هذه الآية يذكر كلاما آخر للمسيحيين، وهو قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، ويبدو من ظاهر الكلام أن عند النصارى طائفتين إحداهما تقول: إن المسيح هو الله، أو ابن الله، فيكون إلها بهذا الاعتبار، والواقع أن النصارى تقرر عندهم التثليث من قبل نزول القرآن، وبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك التاريخ تتميز به عقيدة النصارى، وشعارهم الصليب رمزا إلى صلب المسيح في زعمهم الذي فنده القرآن الكريم على أن التثليث عندهم لم يجئ دفعة واحدة، فقد تقررت ألوهية المسيح على أنه [ ص: 2307 ] ابن الله في زعمهم في مؤتمر نيقية الذي ذكرناه والذي انعقد في سنة 325، وبعد ذلك بنحو ست وخمسين في مجمع القسطنطينية تقررت ألوهية روح القدس، وفرض ذلك الرأي بقوة السلطان كما فرض الرأي الأول الخاص بألوهية المسيح بقوة السلطان، وكان المسيحيون يجتمعون لرده.

                                                          ويلاحظ في مجمع القسطنطينية أمران؛ أحدهما: أن الذين حضروا ذلك المجمع 150 من رجال دينهم، وما كان هذا ليمثل النصارى أجمعين، ولكن فرض رأي أولئك الذين سموهم أساقفة على النصارى جميعا، وأسكت كل صوت يخالفه، ولقد كان ذلك المجمع كسابقه مفاجأة لعامة النصارى; لأنه ليس بإله عندهم وقد أعلن ذلك مقدونيوس وكانت مقالته ليست هي الشائعة بين النصارى، حتى جاء ذلك المجمع القسطنطيني فأتم التثليث.

                                                          ثانيهما: أن الذي دعا إلى عقده بطريق الإسكندرية، كما أنه هو الذي كان رئيس مجمع نيقية وإن لم تكن له الرياسة في المجمع الأخير، وأن الذي دعا إلى تقرير ألوهية روح القدس هو هذا البطريق، وقال كما نقل كتاب تاريخ البطارقة لابن البطريق:

                                                          (ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به).

                                                          وأن هذه السلسلة التي ساقها تنقض لبناتها إذا قلنا: روح القدس ليست روح الله، ولكنها جبريل الأمين الذي خلقه، وبذلك تنقطع حلقات السلسلة، حلقة حلقة.

                                                          وروح القدس في زعمهم هي الروح العامة التي تنشر الحياة بين الأحياء، ومما يسترعي النظر، أن الذي قاد فكرة ألوهية المسيح وروح القدس هو بطريق الإسكندرية التي كانت تسودها في ذلك الإبان الأفلاطونية الحديثة التي كانت خلاصتها، أن الإله الأكبر هو العقل الأول، وقد نشأ عنه العقل الثاني، نشوء [ ص: 2308 ] المعلول عن علته، أي: أن وجودها متصل، وعرفوا روح القدس بالتعريف النصراني الذي ذكرناه، وبذلك تلتقي نصرانية النصارى مع فلسفة الإسكندرانية الواهمة، وقائد الدعوة لألوهية المسيح وألوهية روح القدس هو هو بطريق الإسكندرية، فليعرف النصارى زمان ابتعادهم عن اتباع المسيح -عليه السلام- وسببه والمصدر الذي انحرفوا إليه ومن أوردهم مورده غير العذب.

                                                          هناك إذن عند النصارى تثليث، وأن الله تعالى ثالث ثلاثة، وأن الله تعالى قد حكم بأنهم كافرون، فقد قال سبحانه مؤكدا القول: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة فمن الخطأ الفاحش ما يقال إن الله تعالى عبر عن النصارى واليهود بأنهم أهل كتاب، فليسوا كفارا... فقد أكد سبحانه وتعالى كفرهم أولا بتكفيرهم؛ لأنهم زعموا أن المسيح هو الله، ويقررون أن الله ثالث ثلاثة، وأكد كفرهم في الحالتين باللام وبقد، فكيف يسوغ المؤمن أن يقول إنهم غير كافرين.

                                                          والنصان الكريمان واردان على موضوع واحد، وهو النصارى، فالنص الأول وهو: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح موضوعه هو ذات موضوع النص الآخر: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وكل آية من الآيتين تبين ناحية من نواحي اعتقادهم، واكتفى في الآية الأولى بزعمهم في المسيح عليه السلام، لبيان مقدار افترائهم عليه ومناقضهم لمن ينتسبون إليه، وأنهم لا يصح أن يسموا مسيحيين؛ لأنه بريء منهم، وذكرت الثانية لبيان حقيقة اعتقادهم.

                                                          وما من إله إلا إله واحد

                                                          بعد أن بين سبحانه وتعالى كفر من يقول بالتثليث بين سبحانه وتعالى العقيدة الصحيحة، فقال سبحانه ذلك النص الحكيم، ومؤداه نفي الألوهية نفيا مطلقا عن غير إله واحد، والصيغة تفيد استحالة أن يكون الإله غير واحد؛ لأنه لا ينتظم الكون والسماء والأرض، ومن فيهما كما جاء في قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ ص: 2309 ] وكما أن في النص تقريرا لعقيدة التوحيد المستقيمة، فيه أيضا توبيخ موجه إليهم على مخالفتهم المعقول، ومجانبتهم ما يقره أهل العقول، ولذلك حذرهم سبحانه عن أن يسيروا في طريق الغي وأن يعودوا إلى الحق، فقال سبحانه:

                                                          وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم هذا تحذير من الله سبحانه لهم عن أن يستمروا في هذا القول الكاذب على الله تعالى، وعلى رسوله المسيح -عليه الصلاة والسلام- ومعنى الانتهاء يتضمن أمرين: أن يعدلوا عن ذلك القول وألا يعتقدوه ولا يؤمنوا به، ولم يكتف بالانتهاء عن العقيدة، ولكن الله سبحانه ذكر انتهاء عن القول للإشارة إلى أن هذا كلام يقولونه، ولا يمكن أن يكون عقيدة يعتنقونها؛ لأنه كلام لا يتفق مع العقل، وقد كذبهم عيسى -عليه السلام- بما قرره في دعوته، وبين أن الشرك ظلم عظيم، وأن من يشرك بالله مأواه جهنم، وحرم الله تعالى عليه الجنة.

                                                          والخلاصة: أن هذا الادعاء قول يرددونه معا فيلحدون به وهو باطل؛ إذ كيف يولد ويكون إلها، وقد هددهم بالعذاب الشديد يمسهم، وهنا إشارات بيانية:

                                                          الأولى: التعبير "يمسهم" إذ المراد أنه يصيب جلدهم، وهو موضع الإحساس فيهم، أي: أن العذاب المؤلم مستمر; إذ يمس جلدهم، ويصيب موضع الإحساس فيهم.

                                                          الثانية: أن من هنا بيانية أي: يمسهم ذلك العذاب ما داموا مصرين على قولهم وكذبهم، وقال: " الذين " . وعبر بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم؛ لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.

                                                          الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى أكد العذاب الشديد ينزل بهم بالقسم المطوي الذي دلت عليه اللام، والنون المؤكدة، وتنكير عذاب، ووصفه بالألم الشديد; لأن التنكير هنا للتعظيم والتكثير.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية