الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4020 4268 - حدثنا قتيبة، حدثنا عبثر، عن حصين، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة بهذا، فلما مات لم تبك عليه. [انظر: 4267 - فتح: 7 \ 516]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              (مؤتة) بضم الميم وبالهمز قرية من أرض البلقاء أي: بأدناها من أرض الشام، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان، والفتح بعدها في رمضان.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الموتة بلا همز فضرب من الجنون، كما نبه عليه السهيلي ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 408 ] لكن في "أمالي" أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش قال أبو العباس محمد بن يزيد: لا تهمز موتة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال صاحب "المطالع": أكثر الرواة لا يهمزونها. وأما ثعلب فلم يحك في "فصيحه" غير الهمز ، وتبعه الجوهري وآخرون. وفي "الواعي" و"الجامع" بالهمز ودونه، واقتصر ابن فارس على الهمز .

                                                                                                                                                                                                                              ولما ذكر ابن إسحاق أن مؤتة قرية من أرض البلقاء قال: لقيهم -يعني: زيد بن حارثة ومن معه- جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا منه يؤذن أن مشارف غير مؤتة. وقد قال المبرد: المشرفية سيوف تنسب إلى المشارف من أرض الشام، وهو الموضع الملقب بمؤتة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وكان سببها أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكسر اللام بكتابه إلى ملك الروم -وقيل: إلى ملك بصرى- فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه (رباطا) ثم قدم فضربت عنقه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 409 ] صبرا ولم يقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول غيره، فاشتد ذلك عليه وندب الناس فأسرعوا، وأمر عليهم زيد بن حارثة. وقال: ("إن أصيب زيد فجعفر، وإن أصيب فعبد الله بن رواحة") فتجهزوا ثم تهيئوا وعسكروا بالجرف، وهم ثلاثة آلاف، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوادع، فقال المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين: فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى، فقال: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار وإن منكم إلا واردها [مريم: 71] فكيف بالصدر بعد الورود، ثم قال:


                                                                                                                                                                                                                              لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة
                                                                                                                                                                                                                              بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي
                                                                                                                                                                                                                              أرشده الله من غاز وإن رشدا



                                                                                                                                                                                                                              ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام بضم الميم. وقال الوقشي: الصواب فتحها فبلغ الناس أن هرقل نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وتغلب مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي يقال له: مالك بن زافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين فأقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له، فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 410 ] إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، ثم التقى الناس فقتل الثلاثة كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، زيد، ثم جعفر، ثم ابن رواحة، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، فدفع القوم وتحاشى بهم، ثم حاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس كما ذكره ابن إسحاق وهو المحاز. وحكى ابن سعد وغيره أن الهزيمة كانت على المسلمين. وحكى أيضا أن الهزيمة كانت على الروم ، كما سيأتي في البخاري. ورفعت الأرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى معتركهم فلما أخذ خالد اللواء قال: "الآن حمي الوطيس" .

                                                                                                                                                                                                                              وعدد ابن إسحاق من استشهد من المسلمين، ومنهم الأمراء الثلاثة كما سلف ، ولما قدموا استقبلهم أهل المدينة يحثون في وجوههم التراب، ويقولون: يا فرارون، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "ليسوا بفرارين ولكنهم كرارين إن شاء الله" .

                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر الحاكم شعر عبد الله بن رواحة لما ودع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم - في حق زيد: "دخل الجنة وهو يسعى". وقال في حق جعفر: "فإنه شهيد دخل الجنة، وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة" وذكر شعره لما عقر فرسه، وهو أول من عقر فرسا في الإسلام وقاتل. ثم ذكر شعر ابن رواحة وقتله، وأنه دخل معترضا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 411 ] وعند ابن هشام أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت وأخذها بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الدلائل" للبيهقي: لما أخذ خالد اللواء قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره" فمن يومئذ سمي خالد سيف الله . زاد ابن عائذ: ونعم عبد الله وأخو العشيرة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث العطاف بن خالد: لما أصبح خالد جعل مقدمته ساقته وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكر الروم ذلك وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم . وفي حديث جابر بن عبد الله: وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين.

                                                                                                                                                                                                                              إذا عرفت ذلك فقد ساق البخاري في الباب أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: عمرو، عن ابن أبي هلال قال: وأخبرني نافع، أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، وليس منها شيء في دبره.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر في الحديث بعده (فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعا وتسعين بين طعنة ورمية) ولا تحالف بينهما; لأنه لم يعد الرمي في الأولى.

                                                                                                                                                                                                                              و (ابن أبي هلال) هو سعيد بن أبي هلال الليثي الذي ولد بمصر سنة سبعين، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر في خلافة هشام، ومات بها سنة ثلاثين أو خمس وثلاثين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 412 ] ثانيها: حديث ابن عمر: "إن قتل زيد فجعفر" .. إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              سلف، رواه عن أحمد بن أبي بكر، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن نافع، عنه. وليس للمغيرة في "الصحيح" غيره، وهو ثقة وإن ضعفه أبو داود. عرض عليه الرشيد قضاء المدينة وجائزة أربعة آلاف دينار فامتنع فأجازه بألفين ، وكان فقيه المدينة بعد مالك، ومات سنة ست أو ثمان وثمانين ومائة، وروى عمر بن الحكم، عن أبيه قال: جاء النعمان بن مهض اليهودي

                                                                                                                                                                                                                              فوقف مع الناس وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أبا القاسم إن كنت نبيا فسميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا; لأن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم فقالوا: إن أصيب فلان ففلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا، ثم جعل اليهودي يقول لزيد: اعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا، إن كان محمد نبيا، قال زيد: أشهد أنه نبي صادق بار.


                                                                                                                                                                                                                              فائدة: ظواهر الحديث أن زيدا أصيب أولا، ثم جعفر، ثم ابن رواحة. بل صريح حديث أنس الآتي، وكذا حديث الحكم السالف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن إسحاق: قول كعب بن مالك يصدق أن جعفرا كان أول قتيل، وهو:


                                                                                                                                                                                                                              إذ يقتدون بجعفر ولوائه قدام أولهم ونعم الأول
                                                                                                                                                                                                                              حتى تفرجت الصفوف وجعفر حيث اللقاء تحت الصفوف مجدل



                                                                                                                                                                                                                              وكذا ذكر ابن سعد، عن أبي عامر أنه أول قتيل، ثم زيد، ثم عبد

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 413 ] الله بن رواحة،
                                                                                                                                                                                                                              ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قط، حيث لم أر اثنين جميعا، ثم أخذ اللواء رجل من الأنصار فسلمه لخالد -في حديث عروة: فأخذه ثابت بن أقرم العجلاني، ثم تسلمه خالد - فحمل على الروم، فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام -: نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث سلف في الجهاد ، وهو ظاهر في نصره على الكفار، وكذا قوله في الجنائز والجهاد: "ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له".

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: (نعى زيدا) .. إلى آخره أخبر بموتهم، وقوله: (تذرفان) أي: الدمع، وقيل: (تدمعان) وهو مثله.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة رضي الله عنها في قتل هؤلاء الثلاثة: جلس يعرف فيه الحزن.

                                                                                                                                                                                                                              سلف بطوله في الجنائز. و (صائر الباب): شقه، كما صرح به فيه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 414 ] وقوله: ("فاحث في أفواههن من التراب") وقع هنا بكسر الثاء وفيه لغتان كما سلف. حثا يحثو، وحثى يحثي حثيا.

                                                                                                                                                                                                                              و (العناء): النصب. يقال: عنا عناء إذا نصب.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عامر قال: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.

                                                                                                                                                                                                                              هو من مناقبه الظاهرة.

                                                                                                                                                                                                                              السادس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد انقطعت في يدي يوم موتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية: لقد دق في يدي يومئذ تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. أصلها أن تقرأ بتشديد الياء; لأنها ياء النسبة، إلا أنهم خففوها، يقال: سيف يمان، والأصل يماني.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه واكذا واكذا. تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي: آنت كذلك؟!

                                                                                                                                                                                                                              وعنه أيضا قال: أغمي على عبد الله بن رواحة بهذا، فلما مات لم تبك عليه.

                                                                                                                                                                                                                              كذا أورده البخاري هنا، وإغماؤه كان في غير هذا الموضع، وأخته لم تكن إذ ذاك معه. وقد سلف الكلام على النوح في بابه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية