الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال محمد بن عيسى بن سميع ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري : قلت لسعيد بن المسيب : هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان ؟ قال : قتل مظلوما ، ومن خذله كان معذورا ، ومن قتله كان ظالما ، وإنه لما استخلف كره ذلك نفر من الصحابة ; لأنه كان يحب قومه ويوليهم ، فكان يكون منهم ما تنكره الصحابة فيستعتب فيهم ، فلا يعزلهم ، فلما كان في الست الحجج الأواخر استأثر ببني عمه فولاهم وما أشرك معهم ، فولى عبد الله بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها ، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه ، وقد كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى ابن مسعود وأبي ذر وعمار فحنق عليه قومهم ، وجاء المصريون يشكون ابن أبي سرح ، فكتب إليه يتهدده فأبى أن يقبل ، وضرب بعض من أتاه ممن شكاه فقتله .

                                                                                      فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل ، فنزلوا المسجد ، وشكوا إلى الصحابة ما صنع ابن أبي سرح بهم ، فقام طلحة فكلم عثمان بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة تقول له : أنصفهم من عاملك ، ودخل عليه علي ، وكان متكلم القوم ، فقال : إنما يسألونك رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما ، فاعزله ، واقض بينهم ، فقال : اختاروا رجلا أوله ، فأشاروا عليه بمحمد بن أبي بكر ، فكتب عهده ، وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح . فلما كان محمد على مسيرة ثلاث من المدينة ، إذا هم بغلام أسود على بعير مسرعا ، فسألوه ، فقال : وجهني أمير المؤمنين إلى عامل مصر ، فقالوا له : هذا عامل أهل مصر ، وجاءوا به إلى محمد ، وفتشوه فوجدوا إداوته [ ص: 208 ] تتقلقل ، فشقوها ، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح ، فجمع محمد من عنده من الصحابة ، ثم فك الكتاب ، فإذا فيه : إذا أتاك محمد ، وفلان ، وفلان فاستحل قتلهم ، وأبطل كتابه ، واثبت على عملك . فلما قرأوا الكتاب رجعوا إلى المدينة ، وجمعوا طلحة ، وعليا ، والزبير ، وسعدا ، وفضوا الكتاب ، فلم يبق أحد إلا حنق على عثمان ، وزاد ذلك غضبا وحنقا أعوان أبي ذر ، وابن مسعود ، وعمار .

                                                                                      وحاصر أولئك عثمان وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم ، فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة ، والزبير ، وعمار ، ثم دخل على عثمان ، ومعه الكتاب والغلام والبعير ، فقال : هذا الغلام والبعير لك ؟ قال : نعم . قال : فهذا كتابك ؟ فحلف أنه ما كتبه ولا أمر به ، قال : فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم . فقال : كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به ؟ وعرفوا أنه خط مروان ، وسألوه أن يدفع إليهم مروان ، فأبى وكان عنده في الدار ، فخرجوا من عنده غضابا ، وشكوا في أمره ، وعلموا أنه لا يحلف بباطل ولزموا بيوتهم .

                                                                                      وحاصره أولئك حتى منعوه الماء ، فأشرف يوما ، فقال : أفيكم علي ؟ قالوا : لا . قال : أفيكم سعد ؟ قالوا : لا ، فسكت ، ثم قال : ألا أحد يسقينا ماء ، فبلغ ذلك عليا ، فبعث إليه بثلاث قرب فجرح في سببها جماعة حتى وصلت إليه ، وبلغ عليا أن عثمان يراد قتله ، فقال : إنما أردنا منه مروان ، فأما عثمان ، فلا ندع أحدا يصل إليه .

                                                                                      وبعث إليه الزبير ابنه ، وبعث طلحة ابنه ، وبعث عدة من الصحابة أبنائهم ، يمنعون الناس منه ، ويسألونه إخراج مروان ، فلما رأى ذلك محمد بن أبي بكر ، ورمى الناس عثمان بالسهام ، حتى خضب الحسن بالدماء على بابه ، وأصاب مروان سهم ، وخضب محمد بن طلحة ، وشج قنبر مولى علي ، فخشي محمد أن يغضب بنو هاشم لحال [ ص: 209 ] الحسن ، فاتفق هو وصاحباه ، وتسوروا من دار ، حتى دخلوا عليه ، ولا يعلم أحد من أهل الدار ؛ لأنهم كانوا فوق البيوت ، ولم يكن مع عثمان إلا امرأته . فدخل محمد فأخذ بلحيته ، فقال : والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني . فتراخت يده ، ووثب الرجلان عليه فقتلاه ، وهربوا من حيث دخلوا ، ثم صرخت المرأة ، فلم يسمع صراخها لما في الدار من الجلبة . فصعدت إلى الناس وأخبرتهم ، فدخل الحسن والحسين وغيرهما ، فوجدوه مذبوحا .

                                                                                      وبلغ عليا وطلحة والزبير الخبر ، فخرجوا - وقد ذهبت عقولهم - ودخلوا فرأوه مذبوحا ، وقال علي : كيف قتل وأنتم على الباب ؟ ولطم الحسن وضرب صدر الحسين ، وشتم ابن الزبير ، وابن طلحة ، وخرج غضبان إلى منزله ، فجاء الناس يهرعون إليه ليبايعوه ، قال : ليس ذاك إليكم ، إنما ذاك إلى أهل بدر ، فمن رضوه فهو خليفة . فلم يبق أحد من البدريين إلا أتى عليا ، فكان أول من بايعه طلحة بلسانه ، وسعد بيده ، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر ، فكان أول من صعد إليه طلحة ، فبايعه بيده ، ثم بايعه الزبير وسعد والصحابة جميعا ، ثم نزل فدعا الناس ، وطلب مروان ، فهرب منه هو وأقاربه .

                                                                                      وخرجت عائشة باكية تقول : قتل عثمان ، وجاء علي إلى امرأة عثمان ، فقال : من قتله ؟ قالت : لا أدرى ، وأخبرته بما صنع محمد بن أبي بكر . فسأله علي ، فقال : تكذب ؛ قد والله دخلت عليه ، وأنا أريد قتله ، فذكر لي أبي ، فقمت وأنا تائب إلى الله ، والله ما قتلته ولا أمسكته ، فقالت : صدق ، ولكنه أدخل الذين قتلاه .

                                                                                      وقال محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص ، عن أبيه ، عن جده ، [ ص: 210 ] قال : اجتمعنا في دار مخرمة للبيعة بعد قتل عثمان ، فقال أبو جهم بن حذيفة : أما من بايعنا منكم فلا يحول بيننا وبين قصاص ، فقال عمار : أما دم عثمان فلا ، فقال : يا ابن سمية ، أتقتص من جلدات جلدتهن ، ولا تقتص من دم عثمان ؟ فتفرقوا يومئذ عن غير بيعة .

                                                                                      وروى عمر بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، قال : قال مروان : ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم - يعني عليا عن عثمان - قال : فقلت : ما بالكم تسبونه على المنابر ؟ قال : لا يستقيم الأمر إلا بذلك . رواه ابن أبي خيثمة بإسناد قوي ، عن عمر .

                                                                                      وقال الواقدي ، عن ابن أبي سبرة ، عن سعيد بن أبي زيد ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، قال : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، فانتهبت وذهبت ، وترك ألف بعير بالربذة ، وترك صدقات بقيمة مائتي ألف دينار .

                                                                                      وقال ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، قال : بلغني أن الركب الذين ساروا إلى عثمان عامتهم جنوا .

                                                                                      وقال ليث بن أبي سليم ، عن طاوس ، عن ابن عباس سمع عليا يقول : والله ما قتلت - يعني عثمان - ولا أمرت ، ولكن غلبت ، يقول ذلك ثلاثا . وجاء نحوه عن علي من طرق ، وجاء عنه أنه لعن قتلة عثمان .

                                                                                      وعن الشعبي ، قال : ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك :

                                                                                      فكف يديه ثم أغلق بابه وأيقن أن الله ليس بغافل [ ص: 211 ]     وقال لأهل الدار : لا تقتلوهم
                                                                                      عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل     فكيف رأيت الله صب عليهم ال
                                                                                      عداوة والبغضاء بعد التواصل     وكيف رأيت الخير أدبر بعده
                                                                                      عن الناس إدبار النعام الجوافل

                                                                                      ورثاه حسان بن ثابت بقوله :

                                                                                      من سره الموت صرفا لا مزاج له     فليأت مأدبة في دار
                                                                                      عثمانا ضحوا بأشمط عنوان السجود به     يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
                                                                                      صبرا فدى لكم أمي وما ولدت     قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
                                                                                      ليسمعن وشيكا في ديارهم     الله أكبر يا ثارات عثمانا



                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية