الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما زوال العقل بغير النوم فهو أن يجن أو يغمى عليه أو يسكر أو يمرض فيزول عقله فينتقض وضوءه ، لأنه إذا انتقض الوضوء بالنوم فلأن ينتقض بهذه الأسباب أولى ، ولا فرق في ذلك بين القاعد وغيره ، ويخالف النوم فإن النائم إذا كلم تكلم ، وإذا نبه تنبه ، فإذا خرج منه الخارج وهو جالس أحس به بخلاف المجنون والسكران . قال الشافعي رحمه الله : قد قيل : إنه قل من جن إلا وينزل ، فالمستحب أن يغسل احتياطا )

                                      التالي السابق


                                      . [ ص: 25 ] ( الشرح ) أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون وبالإغماء ، وقد نقل الإجماع فيه ابن المنذر وآخرون واستدل له أصحابنا وغيرهم بحديث عائشة رضي الله عنها { : أن النبي صلى الله عليه وسلم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل ليصلي ، ثم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل } " رواه البخاري ومسلم ، واتفق أصحابنا على أن من زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض أو سكر بخمر أو نبيذ أو غيرهما ، أو شرب دواء للحاجة أو غيرها فزال عقله انتقض وضوءه ، ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجها للخراسانيين أنه لا ينتقض وضوء السكران إذا قلنا : له حكم الصاحي في أقواله وأفعاله . حكاه الفوراني والغزالي في البسيط ، والمتولي وصاحب العدة والروياني وغيرهم ، وهو غلط صريح ، فإن انتقاض الوضوء منوط بزوال العقل ، فلا فرق فيه بين العاصي والمطيع ، قال أصحابنا : والسكر الناقض هو الذي لا يبقى معه شعور ، دون أوائل النشوة ، وقال أصحابنا : ولا فرق في كل ذلك بين القاعد ممكنا مقعده وغيره ، ولا بين قليله وكثيره . وأما الدوار - بضم الدال وتخفيف الواو ، وهو دوار الرأس - فلا ينقض مع بقاء التمييز . ذكره إمام الحرمين ، وهو واضح . قال القاضي حسين والمتولي : حد الجنون زوال الاستشعار من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء ، والإغماء زوال الاستشعار مع فتور الأعضاء ، والله أعلم .

                                      وأما قوله : قال الشافعي قد قيل : " قل من يجن إلا وينزل " فهو مشهور عن الشافعي ، ذكره في الأم وحرملة ، وأما لفظ النص فقال في الأم في آخر باب ما يوجب الغسل : " وقد قيل ما جن إنسان إلا أنزل ، فإن كان هذا هكذا اغتسل المجنون للإنزال ، وإن شك فيه أحببت له الاغتسال احتياطا ولم أوجب ذلك عليه حتى يستيقن الإنزال " . هذا نصه بحروفه ومن الأم نقلته ، وكذا نقله عن الأم جماعة من الأصحاب ، ونقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وجماعة [ ص: 26 ] في المغمي عليه . والذي في الأم إنما هو في المجنون كما نقلته ، واختلف الأصحاب في المسألة ، فجزم المصنف وجماعات من المحققين بأن غسل المجنون إذا أفاق سنة ولا يجب ، إلا أن يتيقن خروج المني .

                                      وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعات من الأصحاب : إن كان الغالب من حال الذين يجنون الإنزال وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال ، كما نوجب الوضوء بالنوم مضطجعا للظن الغالب ، فإن لم يكن الإنزال غالبا لم يجب الغسل بالشك ونقل صاحب البحر هذا التفصيل عن الأصحاب . ونقل صاحب الحاوي عن الأصحاب أن الإغماء إن كان لا ينفك عن الإنزال وجب الغسل وإن كان قد ينفك فلا ، والصحيح طريقة المصنف ومن وافقه أنه يستحب الغسل ولا يجب حتى يتيقن خروج المني ، فإن القواعد تقتضي أن لا تنتقض الطهارة إلا بيقين الحدث ، خالفنا ذلك في النوم بالنصوص التي جاءت ، وبقي ما عداها على مقتضاه . قال أصحابنا : ويستحب للمغمى عليه الغسل إذا أفاق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر وابن الصباغ وغيرهما : أجمع العلماء على أن الغسل لا يجب عليه ، وحكى الرافعي وجها ضعيفا شاذا أنه يجب الغسل من الجنون مطلقا ، ووجها أشذ منه أنه يجب من الإغماء أيضا . ذكره في باب الغسل ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية