الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري، قال: حدثنا أبو معشر، حدثنا عثمان بن غياث، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي. طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ونسكنا مناسك وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل [ ص: 206 ] بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا تعليق وصله الإسماعيلي، قال: حدثنا القاسم المطرز، حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو كامل فذكره بطوله، لكنه قال "عثمان بن سعد" بدل "عثمان بن غياث" وكلاهما بصريان لهما رواية عن عكرمة، لكن عثمان بن غياث ثقة، وعثمان بن سعد ضعيف.

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله: وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري مات سنة سبع وثلاثين ومائتين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو معشر بفتح الميم واسمه يوسف بن يزيد البراء بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء، وكان يبري العود، العطار أيضا، البصري.

                                                                                                                                                                                  الثالث: عثمان بن غياث بكسر الغين المعجمة وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف ثاء مثلثة، الراسبي بالباء الموحدة الباهلي.

                                                                                                                                                                                  الرابع: عكرمة مولى ابن عباس.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عباس، وهذا الحديث من أفراده.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (حجة الوداع) بفتح الحاء والواو وكسرهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فلما قدمنا مكة) أي فلما قربنا من مكة؛ لأن ذلك كان بسرف.

                                                                                                                                                                                  قوله: (اجعلوا) خطاب لمن كان أهل بالحج مفردا; لأنهم كانوا ثلاث فرق.

                                                                                                                                                                                  قوله: (طفنا) وفي رواية الأصيلي: (فطفنا) بالفاء العاطفة، قال بعضهم: هو الوجه.

                                                                                                                                                                                  قلت: كلاهما موجه، أما الرواية بالفاء فظاهرة، وأما الرواية المجردة عنها فوجهها أنه استئناف، ويجوز أن يكون جواب (فلما قدمنا).

                                                                                                                                                                                  قوله: (وقال) جملة حالية، وقد مقدرة فيها؛ لأن الجملة الفعلية إذا كان فعلها ماضيا ووقعت حالا فلا بد أن يكون فيها كلمة "قد" إما ظاهرة أو مقدرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ونسكنا المناسك) أي من الوقوف والمبيت بمزدلفة وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأتينا النساء) وابن عباس غير داخل فيه; لأنه حينئذ لم يكن مدركا، وإنما هو يحكي ذلك عنهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ثم أمرنا) بفتح الراء أي ثم أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (عشية التروية) أي بعد الظهر ثامن ذي الحجة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فإذا فرغنا من المناسك) أي الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي يوم العيد والحلق.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقد تم حجنا) وفي رواية الكشميهني: (وقد تم) بالواو. ومن هاهنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن أوله إلى هنا مرفوع.

                                                                                                                                                                                  قوله: كما قال الله تعالى: فما استيسر من الهدي قد فسرناه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إذا رجعتم إلى أمصاركم) تفسير من ابن عباس بمعنى الرجوع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (الشاة تجزي) تفسير من ابن عباس، وتجزي بفتح التاء المثناة من فوق، أي تكفي لدم التمتع.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ما وقعت هذه الجملة أعني "الشاة تجزي".

                                                                                                                                                                                  قلت: جملة حالية وقعت بلا واو، وهو جائز كما في قولك: كلمته فوه إلى في.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بين نسكين) وهما الحج والعمرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بين الحج والعمرة) فائدة ذكرهما البيان والتأكيد; لأنهما نفس النسكين وهو بإسكان السين، قال الجوهري: النسك بالإسكان العبادة وبالضم الذبيحة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فإن الله أنزله) أي أنزل الجمع بين الحج والعمرة أخذا من قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج

                                                                                                                                                                                  قوله: (وسنه) أي شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمر به أصحابه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأباحه) أي وأباح التمتع للناس غير أهل مكة، ويجوز في "غير" النصب والجر، أما النصب فعلى الاستثناء، وأما الجر فعلى أنه صفة للناس. وقال بعضهم بنصب "غير" ويجوز كسره.

                                                                                                                                                                                  قلت: الكسر لا يستعمل إلا في المبني، وفي المعرب لا يستعمل إلا الجر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ذلك) أي التمتع.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: هذا دليل للحنفية في أن لفظ ذلك للتمتع لا لحكمه، ثم أجاب بقوله: قول الصحابي ليس بحجة عند الشافعي؛ إذ المجتهد لا يجوز له تقليد المجتهد.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا جواب واه مع إساءة الأدب، ليت شعري ما وجه هذا القول الذي يأباه العقل! فإن مثل ابن عباس كيف لا يحتج بقوله، [ ص: 207 ] وأي مجتهد بعد الصحابة يلحق ابن عباس أو يقرب منه حتى لا يقلده، فإن هذا عسف عظيم؟!

                                                                                                                                                                                  قوله: (التي ذكر الله تعالى) أي في الآية التي بعدها آية التمتع، وهو قوله تعالى: الحج أشهر معلومات

                                                                                                                                                                                  قوله: (في هذه الأشهر) وفائدة هذا التقييد هو التنبيه على أن التمتع الذي يوجب الدم أو الصوم هو الذي في أشهر الحج.

                                                                                                                                                                                  قوله: (شوال) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (والرفث) إلى آخره قد مر بيانه مستقصى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (والفسوق) المعاصي، فيه إشعار أن الفسوق جمع فسق لا مصدر، وتفسير الأشهر وسائر الألفاظ زيادة للفوائد باعتبار أدنى ملابسة بين الآيتين.

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه:

                                                                                                                                                                                  فيه دليل على مشروعية التمتع، وأن المتمتع على قسمين:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: أن يكون سائق الهدي، فلا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله.

                                                                                                                                                                                  والآخر: غير سائق الهدي فإنه يتحلل إذا فرغ عن عمرته، ثم يحرم بالحج.

                                                                                                                                                                                  وفيه: أن المكي لا تمتع عليه، وعند الجمهور التمتع: أن يجمع الشخص بين العمرة والحج في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد، وأن يقدم العمرة، وأن لا يكون مكيا، فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعا.

                                                                                                                                                                                  وفيه: صوم ثلاثة أيام في الحج لمن لا يجد الهدي، والأفضل عند أبي حنيفة أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة؛ رجاء أن يقدر على الهدي الذي هو الأصل، والمستحب في السبعة أن يكون صومها بعد رجوعه إلى أهله؛ إذ جواز ذلك مجمع عليه، ويجوز إذا رجع إلى مكة بعد أيام التشريق في مكة وفي الطريق، وهو محكي عن مجاهد وعطاء، وهو قول مالك، وجوزه أيضا في أيام التشريق، وهو قول ابن عمر وعائشة والأوزاعي والزهري ولم يجوزه علي بن أبي طالب للنهي عن ذلك.

                                                                                                                                                                                  وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس.

                                                                                                                                                                                  وقال إسحاق: يصومها في الطريق، وللشافعي أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                  أصحها عنه: رجوعه إلى أهله.

                                                                                                                                                                                  الثاني: الرجوع هو التوجه من مكة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: الرجوع من منى إلى مكة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: الفراغ من أفعال الحج، فإن فاته صوم الثلاثة حتى أتى يوم النحر لم يجزه عند أبي حنيفة إلا الدم، روي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد والحسن وعطاء، وجوز صومها بعد أيام التشريق حماد والثوري، وللشافعي ستة أقوال:

                                                                                                                                                                                  أحدها: لا يصوم وينتقل إلى الهدي.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عليه صوم عشرة أيام يفرق بيوم.

                                                                                                                                                                                  الثالث: عشرة أيام مطلقا.

                                                                                                                                                                                  الرابع: يفرق بأربعة أيام فقط.

                                                                                                                                                                                  الخامس: يفرق بمدة إمكان السير.

                                                                                                                                                                                  السادس: بأربعة أيام ومدة إمكان السير، وهو أصحها عندهم.

                                                                                                                                                                                  وخرج ابن شريح وأبو إسحاق المروزي قولا أن الصوم يسقط ويستقر في ذمته. والله أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية