الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق

                                                          الغلو: تجاوز الحد، وهو في الدين التعصب له، والتشدد فيه، وتجاوز الحد في أداء ما يطلب كالانهماك في العبادة كما كان يفعل بعض المتشددين في دينهم الذين نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ورد في الأثر: "لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا" وكما نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- قوما عكفوا على العبادة، وتركوا نساءهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما بال أقوام تركوا النساء وقاموا الليل وصاموا النهار وإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ولم أنقطع عن النساء".

                                                          وإن هذا النوع من الغلو، وإن كان غير محمود ولا مستحسن في الإسلام، لا يمكننا أن نعده غير حق في أصله؛ لأن أساسه حق، وإن غالوا فيه وربما يقول كثيرون إنه غير الحق.

                                                          [ ص: 2316 ] ونعود إلى النص الكريم. أمر الله تعالى نبيه أن ينادي أهل الكتاب، ويخاطبهم بقوله: لا تغلوا في دينكم غير الحق والمعنى لا تتجاوزوا الحد، وتشددوا في دينكم غلوا غير الحق، فكلمة غير الحق وصف لمحذوف، والوصف كاشف؛ لأن الغلو دائما غير الحق عندهم؛ لأنه مجاوزة للحد، وكل مجاوزة للحد لا يمكن أن تكون حقا، وقد قال الزمخشري أن من الغلو ما هو حق، كالغلو في التنزيه، ومنها ما هو غير حق كالغلو الذي وقع فيه النصارى من الإفراط في تقديس عيسى وأمه، يصح أن يكون غير الحق منصوبا على أنه حال من الدين نفسه أي: لا تغلوا وتشددوا في التمسك بدينكم، وتمنعوا أنفسكم عن أن يدخلها النور حال أن دينكم هو غير الحق.

                                                          وفي الجملة النص لمنع تشدد النصارى واليهود في التمسك بدينهم غير الحق، والامتناع عن قبول الهداية التي جاءت إليهم، وهم في هذا التشدد يتبعون الأهواء، ولا يتبعون الحق، وهم مقلدون لمن ضلوا وأضلوا.

                                                          ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل الهوى معناه الميل إلى ما فيه شهوة ولذة، وخير الناس من كان هواه ولذته في طاعة الله تعالى، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روي في الصحاح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" ولكن كلمة الهوى لا تكاد تستعمل في القرآن إلا في مقام الذم في الاتباع، جاء في تفسير فخر الدين الرازي ما نصه: قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال تعالى: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله واتبع هواه فتردى

                                                          وما ينطق عن الهوى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى إلا في موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه. وقيل: سمي الهوى هوى; لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى: [ ص: 2317 ]

                                                          إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا

                                                          جملة القول في ذلك أن الهوى يطلق ويراد به تجنب حكم العقل، والاتجاه إلى حكم الشهوة والإحساس من غير نظر إلى منطق العقل وما يدعو إليه الدليل، وسواء السبيل: وسط الطريق، والمراد أنهم ضلوا عن الحق، وهو دائما بين الإفراط والتفريط، فهم ضلوا عن القصد والحق والاعتدال.

                                                          ولنتكلم في معنى النص الكريم، أن الله تعالى في علمه وحكمته ينهى أهل الكتاب عن الاستمرار في الاتباع لقوم قد ثبت ضلالهم قديما، وكانوا من قبل في ضلال بعيد، وهم عبدة الأوثان، ومن كان على شاكلتهم ممن اخترعوا آلهة على هواهم لا على منطق استقاموا عليه، ولا على نور من السماء اهتدوا بهديه، وقد سلكوا مسلكهم، فأدخلوا الوثنية في دينهم واتبعوا فلسفة ضالة مضلة.

                                                          وهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا بسبب ذلك أضلوا خلقا كثيرا، حتى شاع بينهم الانحراف عن الطريق، فكانت وثنية اليونان والرومان والفلاسفة هي التي أضلت خلقا كثيرا، فالضلال الأول هو ضلال الوثنية من قبل وهي التي أضلت النصارى، والإضلال هو سيطرة ذلك على من سيطروا عليهم، والضلال الأخير هو عدم خضوعهم لحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتركهم سبيل المؤمنين الذي كان فيه القصد والاعتدال فتأثرهم بأهواء من ضلوا من قبل وأضلوا جعلهم يأخذون طريق الضلال الأخير، وهو عدم الأخذ بهداية الرسول صلى الله عليه وسلم:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية