الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

                                                          هذا النص فيه معنى التفسير للآية السابقة؛ لأنه يبين عموم العصيان والاعتداء فيهم؛ لأن الاعتداء في الكثير يقع من بعضهم، فكيف ينسب إلى كلهم، وفي هذا النص إشارة إلى أن سبب فساد الأمم في عمومها هو السكوت على المنكر فيها، والمنكر هو الأمر القبيح في ذاته وينهى الشارع عنه، والتناهي يطلق بإطلاقين، وهو الانتهاء عن الفعل الآثم، ومعنى النص على هذا: أنهم يعصون الله تعالى ما أمرهم ويصرون عليه، ويستمرون على فعلهم، فلا يتوبون ولا يرجعون، ولكن ليس هذا هو الظاهر المشهور.

                                                          [ ص: 2320 ] والإطلاق الثاني لمعنى التناهي أن ينهى بعضهم بعضا إذا وقع المنكر فيهم وهو الظاهر، والتناهي عن المنكر يشتمل على ثلاثة معان كلها داخل فيه: أولها: أن يوجد فيهم ناه عن الشر يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، سواء أكان الناهي عددا كبيرا، أم كان عددا قليلا، فليست الكثرة مطلوبة، إنما المراد الوقوع منه.

                                                          ثانيها: أن يمنع الفعل قبل وقوعه أو يقلله بدفع الكثير منه.

                                                          ثالثها: أن يستنكره; لأن السكوت عنه رضا، وبذلك يدفع الاعتراض الذي أورده بعض المفسرين وهو كيف يتصور النهي عن الفعل بعده، فنقول: إن النهي عن المنكر بعد وقوعه إنما هو استنكاره؛ لأنه يمنع الفعل في المستقبل.

                                                          وقد نسب الفعل إليهم أجمعين إذ وقع من بعضهم، وسكت عنه سائرهم؛ ولذا قال سبحانه: لبئس ما كانوا يفعلون وقد أكد سبحانه وتعالى نسبة الفعل إليهم باللام والقسم المطوي، وذمهم ذما مؤكدا، فالفعل بئس يدل على الذم، والذم كان منصبا على الفعل رجاء إيمانهم، وقد روى ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من رضي عمل قوم فهو منهم، ومن كثر سواد قوم فهو منهم".

                                                          والآية تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الأمم، ولا صلاح لهم إلا إذا قاموا بحقه، فالأمم تصلح بالأمر بالمعروف، وتفسد بتركه، ولذلك اعتبره القرآن خاصة الأمة الإسلامية، وبه خيرها، قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله

                                                          [ ص: 2321 ] وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم". ويقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه". ولقد تنبأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ضياع المسلمين عندما يختفي فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد روى أنس بن مالك، أن بعض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه قائلين يا رسول الله: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم". قالوا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا; قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم".

                                                          فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عصام الأمة وهو مكون الرأي العام الفاضل، ويقال: إن الأمة كلها تعصي إذا ظهر العصيان، ولم تستنكره.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية