الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5669 5670 5671 5672 5673 5674 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب، أن علي بن حسين أخبره، أن عمرو بن عثمان أخبره، عن أسامة بن زيد أنه قال: "يا رسول الله أتنزل في دارك بمكة؟ ؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟! وكان عقيل ورث أبا طالب ، هو وطالب ، ولم يرثه جعفر ، ولا علي ، -رضي الله عنهما-؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل 5 وطالب ، كافرين، فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أجل ذلك يقول: لا يرث المؤمن الكافر". .

                                                حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب ... ، فذكر بإسناده مثله.

                                                [ ص: 53 ] قال أبو جعفر : - رحمه الله -: ففي هذا الحديث ما يدل أن أرض مكة تملك وتورث؛ لأنه قد ذكر فيها ميراث عقيل 5 وطالب ، لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، فهذا خلاف الحديث الأول.

                                                ولما اختلفا احتيج إلى النظر في ذلك ليستخرج من القولين قول صحيح، ولو كان على طريق اختيار الأسانيد وصرف القول إلى ذلك؛ لكان حديث علي بن حسين أصحهما إسنادا ولكنها تحتاج إلى كشف ذلك من طريق النظر.

                                                فاعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام كل الناس فيه سواء؛ لا يجوز لأحد أن يبني فيه بناء ولا يحتجز منه موضعا، وكذلك حكم جميع المواضع التي لا يقع لأحد فيها ملك وجميع الناس فيها سواء، ألا ترى أن عرفة لو أراد الرجل أن يبني في المكان الذي يقف فيه الناس بناء لم يكن ذلك له؟ وكذلك منى لو أراد أن يبني فيه دارا كان من ذلك ممنوعا؟ وكذلك جاء الأثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحكم بن مروان الضرير الكوفي ، قال: ثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن يوسف بن ماهك ، عن أمه ، عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: "قلت: يا رسول الله، ألا نتخذ لك بمنى بيتا تستظل فيه؟ فقال: يا عائشة، ، إنها مبنية لمن سبق".

                                                أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- لم يأذن لهم أن يجعلوا له فيها بيتا يستظل فيه؟ لأنه مناخ من سبق؛ لأن الناس كلهم فيها سواء.

                                                حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي (ح).

                                                وحدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن يوسف بن ماهك ، عن أمه - وكانت تخدم عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- - فحدثته عن عائشة مثله.

                                                قال: وسألت أمي مكان عائشة بعدما توفي النبي -عليه السلام- أن تعطيها إياه فقالت لها عائشة: لا أحل لك ولا لأحد من أهل بيتي أن يستحل هذا المكان - تعني منى " .

                                                [ ص: 54 ] قال أبو جعفر : - رحمه الله -: فهذا حكم المواضع التي الناس فيها سواء ولا ملك لأحد عليها، ورأينا مكة على غير ذلك قد أجيز البناء فيها، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم دخلها: من دخل دار أبي سفيان ، فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن". .

                                                حدثنا بذلك ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي هريرة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                فلما كانت مكة مما تغلق عليه الأبواب ومما تبنى فيه المنازل كانت صفتها صفة المواضع التي تجري عليها الأملاك وتقع فيها المواريث.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من جواز بيع دور مكة وإجارتها بحديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، فإنه يدل على أن أرض مكة تملك وتورث، ألا ترى كيف ذكر فيها ميراث عقيل وطالب بن أبي طالب لما تركه أبو طالب في مكة من رباع ودور ومنازل، وإنما ورث هذان أبا طالب ولم يرثه علي وجعفر أبناء أبي طالب أيضا لأنهما كانا مسلمين، والمسلم لا يرث الكافر، وكان عقيل وطالب كافرين فلذلك ورثاه.

                                                ثم حديث أسامة هذا يعارض حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي احتج به أهل المقالة الأولى، فإذا تعارض الحديثان ينظر فيهما ليعمل بأصحهما، فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث أسامة أصحهما إسنادا وأقواهما مجيئا، وهذا ظاهر لا يخفى، فحينئذ يسقط حديث عبد الله بن عمرو؛ على أنا لم نكتف بذلك، بل كشفنا وجه ذلك من طريق النظر والقياس، فوجدنا أن ما يقتضي به حديث أسامة أولى وأصوب من حديث عبد الله بن عمرو .

                                                بيان ذلك: أن المسجد الحرام وغيره من المساجد وجميع المواضع التي لا تدخل في ملك أحد لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناء أو يحتجز موضعا منها، ألا ترى أن موضع الوقوف بعرفة لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناء؟ وكذلك منى لا يجوز لأحد أن يبني فيها دارا؟ والدليل على ذلك حديث عائشة المذكور.

                                                [ ص: 55 ] ووجدنا مكة على خلاف هذا؛ لأنه قد أجيز فيها البناء، وقد قال -عليه السلام- يوم دخل مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..." الحديث، فهذا يدل على أن مكة مما تبنى فيها الدور ومما تغلق عليها الأبواب، فإذا كان كذلك تكون صفتها صفة المواضع التي تجري عليها الأملاك، وتقع فيها المواريث، فحينئذ يجوز بيع الدور التي فيها ويجوز إجارتها، والله أعلم.

                                                وقال ابن قدامة: أضاف النبي -عليه السلام- الدار إلى أبي سفيان إضافة الملك بقوله: "من دخل دار أبي سفيان"، ولأن أصحاب النبي -عليه السلام- كانت لهم دور بمكة: دار لأبي بكر -رضي الله عنه- وللزبير -رضي الله عنه- وحكيم بن حزام -رضي الله عنه- وغيرهم مما يكثر تعدادهم، فبعض بيع وبعض في يد أعقابهم إلى اليوم، وأن عمر -رضي الله عنه- اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة إحداهما بستين ألف درهم والأخرى بأربعين ألف درهم، وهذه قصص اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعا، ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأراضي.

                                                ثم إنه أخرج حديث أسامة بن زيد بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين ، عن عمرو بن عثمان بن عفان ، عن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهم- حب رسول الله -عليه السلام-.

                                                وأخرجه البخاري: ثنا أصبغ، قال: ثنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن علي بن حسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد: "قلت: يا رسول الله، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟! ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر".

                                                [ ص: 56 ] وزاد عبد الرزاق عن معمر: "نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر".

                                                وأخرجه البخاري في كتاب الحج.

                                                وأخرجه في المغازي أيضا: عن سليمان بن عبد الرحمن، عن سعدان بن يحيى ، عن محمد بن أبي حفصة .

                                                وفي كتاب الفرائض أيضا مختصرا عن أبي عاصم ، عن ابن جريج .

                                                وأخرجه مسلم في كتاب المناسك: حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني موسى بن زيد ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي .

                                                وأخرجه أبو داود أيضا في الحج: ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله أين تنزل غدا؟ - في حجته - قال: هل ترك لنا عقيل منزلا؟! ثم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر - يعني المحصب - وذلك أن بني كنانة حالفت قريشا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤووهم".

                                                قال الزهري: والخيف: الوادي.

                                                وأخرجه النسائي: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ... إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء، وفي آخره: "فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول من أجل ذلك: لا يرث المؤمن الكافر".

                                                [ ص: 57 ] وأخرجه ابن ماجه أيضا في الحج: عن محمد بن يحيى ، عن عبد الرزاق ، عن معمر به.

                                                قوله: "أتنزل" الهمزة فيه للاستفهام.

                                                قوله: "وهل ترك لنا عقيل" بفتح العين المهملة وكسر القاف هو أخو علي بن أبي طالب وجعفر وكان يكنى بأبي يزيد، وقيل: بأبي عيسى، والأول هو المشهور، وكان أسن من علي وجعفر، وكان طالب أسن منه وعلي أحدثهم سنا.

                                                وقال ابن سعد: كان عقيل ممن خرج من المشركين إلى بدر مكرها فأسر يومئذ وكان لا مال له ففداه عمه العباس -رضي الله عنه-، ثم أتى مسلما قبل الحديبية، وهاجر إلى النبي -عليه السلام- سنة ثمان وشهد غزوة مؤتة، وتوفي عقيل في خلافة معاوية -رضي الله عنه-.

                                                قوله: "وطالب" مرفوع؛ لأنه عطف على الضمير المرفوع الذي في قوله: "ورث"، وإنما فصل بينهما بقوله: "هو" لئلا يتوهم عطف الاسم على الفعل، وقد علم أن الضمير المرفوع مطلقا لا يحسن العطف عليه إلا بفصل، والأكثر أن يكون ضمير الفصل كما في السورة المذكورة، وقد يكون بكلمة "لا" كما في قوله: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا

                                                قوله: "وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب" وإنما ورثاه لأنهما كانا كافرين وقت الإرث بخلاف جعفر وعلي -رضي الله عنهما- لأنهما كانا مسلمين وقتئذ، ثم أسلم عقيل بعد ذلك كما ذكرنا.

                                                قوله: "من أجل ذلك" أي: من أجل عدم إرث علي وجعفر أباهما أبا طالب. "قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لا يرث المؤمن الكافر".

                                                ويستنبط منه أحكام:

                                                الأول: فيه دليل على بقاء دور مكة لأربابها.

                                                [ ص: 58 ] الثاني: ذكر بعضهم أن فيه دليلا على أن من خرج من بلده مسلما وبقي أهله وولده في دار الكفر ثم غزاها مع المسلمين أن ما فيها من ماله وولده بحكم البلد كما كانت دار رسول الله -عليه السلام- على حكم البلد ولم ير نفسه أحق بها.

                                                وأجيب بأن هذا لو كان هكذا لعلل به -عليه السلام-، وقد قيل: إنه -عليه السلام- إنما ترك النزول بها وكرهه؛ لأنه ترك ذلك حين هاجر لله تعالى، فلم يرجع فيما تركه لله تعالى.

                                                الثالث: فيه دليل على أن المسلم لا يرث الكافر، وهذا أصل في ذلك، وفقهاء الأمصار على ذلك إلا ما حكي عن معاوية ومعاذ ومسروق والحسن البصري وإبراهيم النخعي وإسحاق: أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا أن الكافر لا يرث المسلم.

                                                ثم إنه أخرج حديث عائشة -رضي الله عنها- من ثلاث طرق جياد حسان:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن الحكم بن مروان الكوفي الضرير الصدوق شيخ أحمد ، عن إسرائيل بن يونس ، عن إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي ، عن يوسف بن ماهك ، عن أمه واسمها مسيكة المكية، عن عائشة -رضي الله عنها-.

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده" مصرحا باسمها: ثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك ، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: "قلنا: يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا بمنى؟ قال: لا، منى مناخ من سبق".

                                                الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري ، عن إسرائيل بن يونس ... إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود من حديث ابن مهدي ، عن إسرائيل ... إلى آخره، وقال: "عن أمه"، ولم يسمها.

                                                [ ص: 59 ] وأخرجه الترمذي وابن ماجه: من حديث وكيع ، عن إسرائيل ... كما أخرجه أحمد .

                                                الثالث: عن أبي زرعة الدمشقي عبد الرحمن بن عمرو ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري ، عن إسرائيل ... إلى آخره.

                                                ولما أخرجه الترمذي قال: حديث حسن.

                                                قوله: "ألا نتخذ لك بمنى بيتا" وفي رواية: "شيئا"، وفي رواية أبي داود: "بيتا أو شيئا".

                                                قوله: "مناخ" بضم الميم وبالخاء المعجمة، قال أبو حاتم: مناخ الإبل بضم الميم، ولا يقال بفتحها.

                                                قلت: لأنه اسم موضع، من أناخ إبله: إذا أبركها.

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة : عن ربيع بن سليمان ، عن أسد بن موسى ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم مطولا جدا: ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، قال: ثنا ثابت البناني ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي هريرة قال: "وفدت وفود إلى معاوية وذلك في رمضان..." الحديث بطوله.

                                                وفيه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".




                                                الخدمات العلمية