الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ القول في طلب المرأة إرضاع ولدها ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا طلبت إرضاع ولدها وقد فارقها زوجها فهي أحق بما وجد الأب أن يرضع به فإن وجد بغير شيء فليس للأم أجرة والقول قول الأب مع يمينه ( قال ) في موضع آخر : إن أرضعت أعطاها أجر مثلها ( قال المزني ) رحمه الله : هذا أحب إلي ؛ لقول الله جل ثناؤه ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) [ الطلاق : 6 ] . قال الماوردي : قد ذكرنا أن الأم لا يجبرها الأب على رضاع ولدها مع بقاء الزوجية فكان أولى أن لا يجبرها على رضاعه بعد الفرقة ؛ لأنه لما ضعف عن الإجبار مع استحقاقه لمنافعها كان أولى أن يضعف عنه مع سقوط حقه منها ، وإن طلبت رضاعه لم يخل حالها من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن تطلبه متطوعة بغير أجرة فهي أحق برضاعه ، وليس للأب انتزاعه منها لقول الله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [ البقرة : 233 ] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا توله والدة عن ولدها " ولأنها أحن عليه وأشفق ؛ ولأن لبنها أدر عليه وأوفر ؛ ولأنه يستمرئه أكثر من استمراء غيره .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن تطلب رضاعه بأكثر من أجرة المثل ، فالأب أحق به ليسترضع له غيرها بأجرة المثل ؛ لقول الله تعالى : ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) [ الطلاق : 6 ] وفي تعاسرتم تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : تضايقتم .

                                                                                                                                            والثاني : اختلفتم . وفي طلبها أكثر من أجرة المثل تعاسر فجاز للأب أن يعدل به إلى غيرها ؛ ولأن طالب الزيادة في حكم الممتنع ، كالعادم الماء إذا بذل له بأكثر من ثمنه ، فلو كانت ذات لبن لا يستغني عنه المولود وليس يوجد لبن من غيرها أخذت [ ص: 497 ] جبرا بإرضاع اللبن حفاظا لحياة الولد ، وأعطيت أجرة المثل ، ولو قيل : لا أجرة لها لأنه حق قد تعين عليها وعجز الأب عنه فجرى مجرى نفقته إذا أعسر الأب وأيسرت لكان له وجه

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن تطلب رضاعة بأجرة المثل فللأب ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن لا يجد غيرها إلا بأجرة المثل ، فالأم أحق لفضل حنوها وإشفاقها ولإدرار لبنها عليه .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن يجد متطوعا برضاعه ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو المستور في هذا الموضع وبه قال أبو حنيفة : أن الأب أحق به ليسترضع له من تطوع لقوله تعالى : ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) ولأن رضاعه من حقوق المواساة التي تسقط بالاستغناء عن الغرم لنفقة الولد لو تطوع بها متطوع سقط غرمها عن الأب .

                                                                                                                                            والقول الثاني : حكاه المزني عنه أنه قال في موضع آخر : أن الأم أحق برضاعه بأجرة المثل إن وجد الأب متطوعا لقول الله تعالى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) ولأن رضاعها أحظ للولد وأدر عليه وأمرأ عليه فصارت به أحق .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يجد الأب من يرضعه بأقل من أجرة المثل فينظر في قدر نقصان الأجرة ، فإن كان بقدر زيادة الإدرار وفضل الاستمراء كانت الأم أحق ؛ لأن نقصان الأجرة يعتبر في مقابلة نقصان اللبن ، وتترجح الأم لفضل حنوها ، وإن كان النقصان من أجرة المثل أكثر من فضل الإدرار والاستمراء كان على قولين ، كما لو وجد متطوعا ، فإن أكذبته الأم أنه قد وجد متطوعا حلف لها فإن نكل عن اليمين ردت عليها فإذا حلفت صارت أحق برضاعه بأجرة مثلها ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية