الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1511 180 - حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله، أين تنزل في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك عقيل من رباع أو دور. وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئا; لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر. قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قول الله تعالى: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض الآية.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (وهل ترك عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب) إلى قوله: (قال ابن شهاب رضي الله تعالى عنه).

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله: وهم سبعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أصبغ بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره غين معجمة ابن الفرج أبو عبد الله.

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الله بن وهب.

                                                                                                                                                                                  الثالث: يونس بن يزيد.

                                                                                                                                                                                  الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.

                                                                                                                                                                                  الخامس: علي بن الحسين المشهور بزين العابدين.

                                                                                                                                                                                  السادس: عمرو بن عثمان بن عفان أمير المؤمنين.

                                                                                                                                                                                  السابع: أسامة بن زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاه.

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده:

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع والإخبار بصيغة الإفراد في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: العنعنة في خمسة مواضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: القول في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: أن شيخه من أفراده، وأنه وابن وهب مصريان، وأن يونس أيلي، والبقية مدنيون.

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره:

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن محمود، عن عبد الرزاق، وفي المغازي عن سليمان بن عبد الرحمن.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الحج عن أبي الطاهر، وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب به.

                                                                                                                                                                                  وعن محمد بن مهران وابن أبي عمر، وعبد بن حميد. وعن محمد بن حاتم.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل به.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن رافع. وعن إسحاق بن منصور. وعن يونس بن عبد الأعلى.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، وفي الفرائض عن أبي الطاهر بن السرح به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (أين تنزل في دارك) قال بعضهم: حذفت أداة الاستفهام من قوله: (في دارك).

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا كلام من لا يفهم العربية ولا استنباط المعاني من الألفاظ، وقوله: (أين) كلمة استفهام فلم يبق وجه لتقدير حرف الاستفهام، فما وجه قوله: حذفت أداة الاستفهام [ ص: 227 ] من قوله: (في دارك) والاستفهام عن النزول في الدار لا عن نفس الدار، فافهم.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية للبخاري ستأتي في المغازي: (أين تنزل غدا)؟

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهل ترك عقيل) وفي رواية مسلم وغيره: (وهل ترك لنا) قوله: (من رباع) جمع ربع وقد ذكرناه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أو دور) للتأكيد إذا فسر الربع بالدار، أو هو شك من الراوي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وكان عقيل) إدراج من بعض الرواة، ولعله من أسامة، كذا قاله الكرماني، وعقيل بفتح العين المهملة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (هو) أي عقيل.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وطالب) أي ورث طالب مع عقيل أباهما أبا طالب واسم أبي طالب عبد مناف وكني بابنه طالب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ولم يرثه جعفر) وهو المشهور بالطيار ذي الجناحين، وطالب أسن من عقيل وهو من جعفر وهو من علي، والتفاوت بين كل واحد والآخر عشر سنين، وهو من النوادر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كافرين) نصب على أنه خبر كان، أي وكان كلاهما كافرين عند وفاة أبيهما، ولأن عقيلا أسلم بعد ذلك عند الحديبية قيل: لما كان أبو طالب أكبر ولد عبد المطلب احتوى على أملاكه وحازها وحده على عادة الجاهلية من تقديم الأسن، فتسلط عقيل أيضا بعد هجرة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي: باع عقيل ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن هاجر من بني عبد المطلب كما كانوا يفعلون بدور من هاجر من المؤمنين، وإنما أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصرفات عقيل؛ كرما وجودا، وإما استمالة لعقيل وإما تصحيحا بتصرفات الجاهلية كما أنه يصحح أنكحة الكفار، وقالوا: فقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها.

                                                                                                                                                                                  وقيل: ولم تزل الدار بيد أولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف بمائة ألف دينار، وكان علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما يقول: من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب، أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب.

                                                                                                                                                                                  قوله: ( فكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر ) هذا موقوف على عمر رضي الله تعالى عنه، وقد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد، وهو عند البخاري في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة، ومعمر عن الزهري.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مفردا في الفرائض من طريق ابن جريج عنه، وفي رواية الإسماعيلي: (فمن أجل ذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه يقول).

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال ابن شهاب) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو المذكور في إسناد الحديث.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وكانوا يتأولون) أي السلف كانوا يفسرون الولاية في هذه الآية بولاية الميراث.

                                                                                                                                                                                  قوله تعالى: إن الذين آمنوا أي صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن وهاجروا من مكة إلى المدينة وجاهدوا العدو بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أي في طاعة الله وفيما فيه رضى الله تعالى، ثم ذكر الأنصار فقال: والذين آووا يعني أووا المهاجرين، يعني أنزلوهم وأسكنوهم في ديارهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف أولئك بعضهم أولياء بعض يعني في الميراث وفي الولاية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (الآية) يعني الآية بتمامها، أو اقرأ الآية، وتمامها: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير

                                                                                                                                                                                  قوله: ولم يهاجروا يعني إلى المدينة ما لكم من ولايتهم من شيء في الميراث حتى يهاجروا إلى المدينة، وقالوا: يا رسول الله، هل نعينهم إذا استعانوا بنا، يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا فنزل: وإن استنصروكم في الدين يعني إن استغاثوا بكم على المشركين فانصروهم فعليكم النصر على من قاتلهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق أي عهد، يعني إلا أن يقاتلوا قوما بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تنصروهم عليهم وأصلحوا بينهم والله بما تعملون بصير في العون والنصرة.

                                                                                                                                                                                  وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وبالمؤاخاة التي آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتوارثون بالإسلام وبالهجرة، وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ ذلك بقوله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه:

                                                                                                                                                                                  قال الخطابي: احتج بهذا الحديث الشافعي على جواز بيع دور مكة بأنه صلى الله عليه وسلم أجاز بيع عقيل الدور التي ورثها، وكان عقيل وطالب ورثا أباهما؛ لأنهما إذ ذاك كانا كافرين فورثا ثم أسلم عقيل وباعها، قال الخطابي: وعندي أن تلك الدور وإن كانت قائمة على ملك عقيل لم ينزلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنها دور هجروها لله تعالى.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: ظاهر هذه الإضافة أنها كانت ملكه، يدل عليه قوله: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) فأضافها إلى نفسه وظاهرها الملك، فيحتمل أن عقيلا أخذها وتصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: يعارض هذا الحديث حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن [ ص: 228 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها " رواه الطحاوي، والبيهقي أيضا ولفظه: " مكة مناخ لا تباع رباعها ولا يؤاجر بيوتها ".

                                                                                                                                                                                  قلت: الأصل في باب المعارضة التساوي، وحديث عبد الله بن عمرو لا يقاوم حديث أسامة؛ لأن في سند حديث عبد الله بن عمرو إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر ضعفه يحيى والنسائي. وعن يحيى مرة: لا شيء، فحينئذ يسقط حديث عبد الله بن عمرو.

                                                                                                                                                                                  ولئن سلمنا المساواة فلا يكتفى بها بل يكشف وجه ذلك من طريق النظر، فوجدنا أن ما يقضي به حديث أسامة أولى وأصوب من حديث عبد الله، بيان ذلك أن المسجد الحرام وغيره من المساجد وجميع المواضع التي لا تدخل في ملك أحد لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناء أو يحتجر موضعا منها، ألا ترى أن موضع الوقوف بعرفة لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناء، وكذلك منى لا يجوز لأحد أن يبني فيها دارا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "قلت: يا رسول الله، ألا تتخذ لك بمنى بيتا تستظل فيه؟ فقال: يا عائشة، إنها مناخ لمن سبق" أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والطحاوي، ووجدنا مكة على خلاف ذلك؛ لأنه قد أجيز فيها البناء، وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم دخل مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فهذا يدل على أن مكة مما يبنى فيها الدور ومما يغلق عليها الأبواب، فإذا كان كذلك يكون صفتها صفة المواضع التي تجري عليها الأملاك، وتقع فيها المواريث، فحينئذ يجوز بيع الدور التي فيها ويجوز إجارتها.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن قدامة: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الدار إلى أبي سفيان إضافة ملك، يقول: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم دور بمكة، دار لأبي بكر رضي الله عنه وللزبير وحكيم بن حزام وغيرهم مما يكثر تعدادهم، فبعض بيع وبعض في يد أعقابهم إلى اليوم، وأن عمر رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف درهم، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة إحداهما بستين ألف درهم والأخرى بأربعين ألف درهم، وهذه قصص اشتهرت فلم تنكر، فصارت إجماعا، ولأنها أرض حية لم ترد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأراضي.

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي: فإن احتج محتج في ذلك بقوله تعالى: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد قيل له: قد روي في تأويل هذا عن المتقدمين ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سواء العاكف فيه والباد قال: خلق الله فيه سواء، فثبت بذلك أنه إنما قصد بذلك إلى البيت أو إلى المسجد الحرام لا إلى سائر مكة، فإذا كان كذلك لا يتساوى الناس في غير المسجد الحرام؛ لأن بعضهم يكونون ملاكا وبعضهم يكونون سكانا، فالمالك يجوز له بيع ملكه وإجارته ونحوهما، ويخدش هذا ما روي عن ابن عباس أيضا قال: كانوا يرون الحرم كله مسجدا، سواء العاكف فيه والبادي، وروى الثوري عن منصور عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابا؛ لينزل البادي حيث شاء.

                                                                                                                                                                                  وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج، وروى ابن أبي نجيح عن عبيد الله بن عمر قال: من أكل كراء بيوت أهل مكة فإنما يأكل نارا في بطنه.

                                                                                                                                                                                  وفيه من الفوائد: أن فيه دليلا على بقاء دور مكة لأربابها.

                                                                                                                                                                                  وفيه: دليل على أن المسلم لا يرث الكافر، وفقهاء الأمصار على ذلك، إلا ما حكي عن معاوية ومعاذ والحسن البصري وإبراهيم النخعي وإسحاق أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا على أن الكافر لا يرث المسلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية