الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال بعضهم : الدنيا تبغض إلينا نفسها ، ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا وقيل لحكيم : الدنيا لمن هي ? قال : لمن تركها ، فقيل : الآخرة لمن هي قال : لمن طلبها وقال حكيم : الدنيا دار خراب ، وأخرب منها قلب من يعمرها ، والجنة دار عمران ، وأعمر منها قلب من يطلبها وقال الجنيد كان الشافعي رحمه الله من المؤيدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا وعظ أخا له في الله وخوفه بالله ، فقال : يا أخي ، إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة عمرانها إلى الخراب صائر وساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف وغناها ، إلى الفقر مصروف ، الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقصر من أملك ، وقال إبراهيم بن أدهم لرجل : أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة ? فقال : دينار في اليقظة ، فقال : كذبت ; لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام ، والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة وعن إسماعيل بن عياش قال : كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة ، فيقولون : إليك عنا يا خنزيرة ، فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به وقال كعب لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله العقلاء ثلاثة ; من ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى ، قبره قبل أن يدخله وأرضى ، خالقه قبل أن يلقاه وقال أيضا : الدنيا بلغ من شؤمها أن تمنيك لها يلهيك عن طاعة الله ، فكيف الوقوع فيها وقال بكر بن عبد الله من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن وقال بندار إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد ، فاعلم أنهم في سخرة الشيطان وقال أيضا : من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها ; يعني : الحرص حتى يصير رمادا ، ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها ، فصار سبيكة ذهب ينتفع به ، ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد ، فصار جوهرا لا حد لقيمته وقال علي كرم الله وجهه : إنما الدنيا ستة أشياء : مطعوم ، ومشروب ، وملبوس ، ومركوب ، ومنكوح ، ومشموم ، فأشرف المطعومات العسل ، وهو مذقة ذباب وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر ، وأشرف الملبوسات الحرير ، وهو نسج دودة ، وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل ، الرجال ، وأشرف المنكوحات المرأة ، وهي مبال في مبال وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ، ويراد أقبح شيء منها وأشرف ، المشمومات المسك ، وهو دم .

التالي السابق


(وقال بعضهم: الدنيا تبغض إلينا نفسها، ونحن نحبها) ، ومع ذلك (فكيف لو تحببت إلينا) .

أخرجه ابن أبي الدنيا (وقيل لحكيم: الدنيا لمن هي؟ قال: لمن تركها، فقيل: الآخرة لمن هي؟ فقال: لمن طلبها) ، وفي ذلك قيل:


كل من لاقيت يشكو حاله ليت شعري هذه الدنيا لمن هذه الدنيا لمن طلقها
ورضي منها بقوت وكفن

(وقال حكيم: الدنيا دار خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والجنة دار عمران، وأعمر منها قلب من يطلبها) .

أخرجه ابن أبي الدنيا.

(وقال) أبو القاسم (الجنيد) بن محمد البغدادي - قدس سره - (كان الشافعي) - رحمه الله تعالى - (من المؤيدين الناطقين بلسان الحق في الدين) يروى أنه (وعظ أخا له في الله) ، أي: في ذات الله - عز وجل - (وخوفه في الله، فقال: يا أخي، إن الدنيا دحض مزلة) الدحض هو الذي تزلق فيه الأقدام، ولا تثبت، والمزلة بمعناه (ودار مذلة) ، أي: دار هوان وذل (عمرانها إلى الخراب صائر) ، أي: راجع (وساكنها إلى القبور زائر) ، أي: عما قريب يزور القبور، ويسكنها (شملها) ، أي: جمعها (على الفرقة) ، أي: الافتراق (موقوف، وعناها) ، أي: تعبها (إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار) ، أي: فقر (والإعسار منها يسار) ، أي: غنى (فافزع إلى الله) ، أي: الجأ إليه (وارض برزق الله) مما قدره لك في الأزل (لا تستلف) ، أي: لا تستقرض (من دار بقائك) من الآخرة (في دار فنائك) من الدنيا (فإن عيشك في زائل) ، [ ص: 98 ] أي: ظل يزول قريبا، (وجدار مائل) لا يعتمد (أكثر من عملك) الصالح، (وقصر من أملك، وقال إبراهيم بن أدهم) - رحمه الله تعالى - (لرجل: أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة؟ فقال: دينار في اليقظة، فقال: كذبت; لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام، والذي تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وعن إسماعيل بن عياش) بن سليم العنسي بالنون، الحمصي، يكنى أبا عتبة، صدوق في روايته عن الشاميين، مخلط في غيرهم، مات سنة إحدى وثمانين عن بضع وتسعين سنة، روى البخاري في كتاب رفع اليدين له، والأربعة، (قال: كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة، فيقولون: إليك عنا يا خنزيرة، فلو وجدوا لها اسما أقبح من هذا لسموها به) ، ولفظ القوت: وقال أبو راشد التنوخي: سمعت أصحابنا إذا أقبلت إلى أحدهم الدنيا قالوا: إليك إليك يا خنزيرة ، استأخري عنا، لا حاجة لنا فيك، إنا نعرف إلهنا. ا ه .

وقد أورده صاحب القوت في أوائل شرح مقام الزهد، عن يزيد بن ميسرة، وهو الصواب .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا داود بن عمر الضبي، سمعت إسماعيل بن عياش، حدثنا أبو راشد التنوخي، عن يزيد بن ميسرة، قال: كان أشياخنا يسمون الدنيا الدنية، ولو وجدوا اسما شرا منه لسموها به، وكانوا إذا أقبلت إلى أحدهم دنيا قالوا: إليك إليك عنا يا خنزيرة، لا حاجة لنا بك، إنا نعرف إلهنا .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى -: (العقلاء ثلاثة; من ترك الدنيا قبل أن تتركه، ومن بنى قبره قبل أن يدخله، ومن أرضى خالقه قبل أن يلقاه) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال أيضا: إن الدنيا بلغ من شؤمها أن تمنيك بما يلهيك عن طاعة الله، فكيف الوقوع فيها) .

أخرجه كذلك في الحلية .

(وقال بكر بن عبد الله) المزني التابعي الثقة: (من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن) .

أخرجه ابن أبي الدنيا، (وقال) أبو الحسين (بندار) بن الحسين الشيرازي، صحب الشبلي، مات بأرجان سنة 353: (إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد، فاعلم أنهم في سخرة الشيطان) ، يعني: لا يتكلم في الزهد إلا من كان زاهدا حتى يكون لكلامه التأثير; ولذلك لما خطب بشر بن مروان على منبر الكوفة، قال رافع بن خديج: انظروا أميركم يعظ الناس، وعليه ثياب الفساق، فقلت: وما كان عليه؟ قال: ثياب رقاق، ولما جاء عبد الله بن عامر القرشي إلى أبي ذر - رضي الله عنه - في بزته، وجعل يتكلم في الزهد، وضع أبو ذر راحته على فيه، وجعل يضرط به، فغضب ابن عامر، فأتى ابن عمر فشكا إليه، وقال: ألم تر ما لقيت من أبي ذر؟ قال: وما ذاك؟ قال: جعلت أقول في الزهد، فأخذ يهزأ بي، فقال ابن عمر: أنت صنعت بنفسك; تأتي أبا ذر في هذه البزة، وتتكلم في الزهد، (وقال) بندار (أيضا: من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها; يعني: الحرص حتى يصير رمادا، ومن أقبل على الآخرة صفته نيرانها، فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن أقبل على الله - عز وجل - أحرقته نيران التوحيد، فصار جوهرا لا حد لقيمته) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال علي - رضي الله عنه -: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم، فأشرف المطعومات العسل، وهو مذقة ذباب) ، أي: مما تلقيه النحل بفيها (وأشرف المشروبات الماء يستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحرير، وهو نسج دودة، وأشرف المركوبات الفرس، عليه تقتل الرجال، وأشرف المنكوحات المرأة، وهي مبال في مبال) ، أي: ظرف بول في ظرف بول، (والله إن المرأة لتزين أحسن شيء منها، ويراد أقبح شيء منها، وأفضل المشمومات المسك، وهو دم الغزال) ، قال أبو القاسم الراغب في كتاب الذريعة: جميع اللذات تنقسم عشرة أقسام: مأكل، ومشرب، وملبس، ومشم، ومسمع، ومبصر، ومركب، وخادم، ومرفق من الآلات، وما يشبهها، وقد جعل ذلك سبعة، وأدخل الخادم، والمركب، والمرفق، وما يجري مجرى ذلك في جملة المبصرات، وعلى ذلك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن [ ص: 99 ] أبي طالب - رضي الله عنه - حيث قال لعمار بن ياسر وقد رآه يتنفس: يا عمار، على ماذا تنفسك؟ إن كان على الآخرة فقد ربحت، وإن كان على الدنيا فقد خسرت صفقتك، فإني قد وجدت لذتها سبعة: المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، والملبوسات، والمشمومات، والمسموعات، والمبصرات .

فأما المأكولات فأفضلها العسل، وهو ضعة ذباب، وأما المشروبات فأفضلها الماء، وهو مباح أهون موجود، وأعز مفقود، وأما المنكوحات فمبال في مبال، وحسبك أن المرأة تزين أحسن شيء فيها، ويراد أقبح شيء فيها، وأما الملبوسات فأفضلها الديباج، وهو نسيج دودة، وأما المشمومات فأفضلها المسك، وهو دم فأرة، وأما المسموعات فريح هابة في الهواء، وأما المبصرات، فخيالات صائرات إلى الفناء، قال الراغب: وقد ذكر الله تعالى أصل ذلك في قوله: زين للناس حب الشهوات من النساء، والبنين الآية، فالمشار إليه بحرث الدنيا إلى هذه الأشياء السبعة على ما ذكره علي - رضي الله عنه -، والعشرة على ما ذكره غيره، وكلا القولين في التحصيل واحد .




الخدمات العلمية