الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5736 5737 5738 5739 5740 5741 5742 5743 5744 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز استقراض الحيوان، وقالوا: يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الربا، ثم حرم الربا بعد ذلك وحرم كل قرض جر منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها فلم يجر القرض إلا فيما له مثل، وقد كان أيضا قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والدليل على ذلك: أن ابن أبي داود] حدثنا، قال: ثنا أبو عمر الحوضي (ح).

                                                [ ص: 115 ] وحدثنا نصر بن مرزوق ، قال: ثنا الخصيب ، قالا: ثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مسلم بن جبير ، عن أبي سفيان ، عن عمرو بن حريش ، عن عبد الله بن عمرو: ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمر بأن يأخذ في قلاص الصدقة، فجعل يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، ثم نسخ ذلك".

                                                وروي في ذلك ما حدثنا محمد بن علي بن محرز البغدادي ، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال: ثنا سفيان الثوري ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: " ، أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". ،

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا شهاب بن عباد ، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن ، عن معمر ... ، فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي، قال: ثنا عبد الواحد بن عمرو بن صالح الزهري ، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث ، عن أبي الزبير ، عن جابر -رضي الله عنه-: " أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يرى بأسا ببيع الحيوان بالحيوان اثنين بواحد، ويكرهه نسيئة".

                                                حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ وعبد الله بن محمد بن خشيش وإبراهيم بن محمد الصيرفي ، قالوا: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن دينار ، عن يونس بن عبيد ، عن زياد بن جبير ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". ،

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة ، قال: ثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                [ ص: 116 ] قال أبو جعفر - رحمه الله -: فكان هذا ناسخا لما رويناه عن رسول الله -عليه السلام- من إجازة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، . فدخل في ذلك أيضا استقراض الحيوان.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والحسن بن صالح وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وفقهاء الكوفة؛ فإنهم قالوا: لا يجوز استقراض الحيوان.

                                                وقال أصحابنا: لا يجوز القرض إلا مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، فلا يجوز قرض ما لا مثل له من المزروعات والمعدودات المتقاربة؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى إيجاب رد القيمة؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة؛ لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين، فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل، فيختص جوازه بما له مثل، وعن هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز القرض في الخبز لا وزنا ولا عددا. وقال محمد: يجوز عددا. وقال ابن قدامة: ويجوز قرض الخبز، ورخص فيه أبو قلابة ومالك إذا لم يشترط أن يقضيه أفضل منه، ومنع منه أبو حنيفة .

                                                وذكر الشريف أبو جعفر: هل يجوز بالعدد أم بالوزن؟ على روايتين.

                                                قوله: "وقالوا: يحتمل..." إلى آخره. جواب من جهة أهل المقالة الثانية عما احتج به أهل المقالة الأولى، حاصله أن يقال: إن حديث أبي رافع وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الربا، فلما حرم الربا بقوله تعالى: وحرم الربا وحرم كل قرض جر منفعة؛ ردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها، فلم يجز القرض بعد ذلك إلا فيما له مثل، والحيوان مما له قيمة فلم يجز الاستقراض فيه.

                                                وأيضا قد كان يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة قبل تحريم الربا، فلما حرم الربا نسخ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، واستقراض الحيوان في المعنى: بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.

                                                [ ص: 117 ] فإن قيل: كيف وجه هذا النسخ، والنسخ لا يكون إلا بمعرفة التاريخ؟ ولهذا قال الخصم: وهذا الحديث - أعني حديث أبي رافع - حجة عليهم، وليس للسنة مدفع، وليس دعواهم النسخ بغير حجة تدفعها.

                                                قلت: قد يوجد النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر والآخر موجبا للإباحة، ولا شك أن حديث أبي رافع يوجب إباحة استقراض الحيوان مطلقا، وآية الربا تحرم كل فضل حال عن العوض، ففي استقراض الحيوان يوجد هذا المعنى فيمنع كما يمنع الربا؛ ولأجل هذا المعنى أيضا منع من بيع الحيوان بالحيوان نسيئة بعد نزول آية الربا؛ لأن فيه ذلك المعنى الذي حرم به الربا، فإذا كان كذلك ثبت النسخ في استقراض الحيوان؛ لأن النص الموجب للحظر فيه متأخر عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى، فافهم.

                                                قوله: "والدليل على ذلك" أي: على كون جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة قبل نسخ الربا: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

                                                أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري، شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى حوض داود بن المهدي بن المنصور، محلة كانت ببغداد.

                                                وعن نصر بن مرزوق ، عن الخصيب - بفتح الخاء وكسر الصاد - بن ناصح الحارثي الثقة، يروي هو وأبو عمر الحوضي كلاهما، عن حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني ، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، روى له الجماعة.

                                                عن مسلم بن جبير الحرشي، وثقه ابن حبان .

                                                عن أبي سفيان، وثقه يحيى بن معين، قاله عثمان بن سعيد .

                                                عن عمرو بن حريش - بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وفي آخره شين معجمة - وثقه ابن حبان .

                                                [ ص: 118 ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مسلم بن جبير ، عن أبي سفيان ، عن عمرو بن حريش ، عن عبد الله بن عمرو: "أن رسول الله -عليه السلام- أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة".

                                                وأخرجه البيهقي بأتم منه: من حديث حماد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مسلم بن جبير ، عن أبي سفيان ، عن عمرو بن حريش، قال: "قلت لعبد الله بن عمر وأنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة: أفنبيع البقرة بالبقرتين والبعير بالبعيرين والشاة بالشاتين، فقال: أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أجهز جيشا، فنفدت الإبل. فقلت: يا رسول الله نفدت الإبل، فقال: خذ في قلاص الصدقة، قال: فجعلت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة".

                                                فإن قلت: ما حال إسناد هذا الحديث؟

                                                قلت: قال ابن ماكولا: عمرو بن حريش أبو محمد الزبيدي، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، روى حديثه ابن إسحاق صاحب المغازي فاختلف عليه فيه، رواه عنه حماد بن سلمة ، واختلف عنه: فرواه حفص بن عمر الحوضي عنه، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مسلم بن جبير ، عن أبي سفيان ، عن عمرو بن حريش .

                                                وخالفه عفان بن مسلم الصفار فرواه عن حماد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مسلم بن أبي سفيان ، عن عمرو بن حريش .

                                                [ ص: 119 ] وخالف حماد بن سلمة إبراهيم بن سعد وجرير بن حازم فروياه عن ابن إسحاق، قال: حدثني أبو سفيان الحرشي - وكان ثقة فيما ذكر لي أهل بلاده - عن مسلم بن جبير مولى ثقيف، وكان مسلم رجلا يؤخذ عنه، وقد أدرك وسمع من عمرو بن حريش الزبيدي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص .

                                                وخالفهم عبد الأعلى بن عبد الأعلى، فرواه عن ابن إسحاق، عن أبي سفيان بن مسلم بن كثير ، عن عمرو بن حريش .

                                                وقال الذهبي في ترجمة عمرو بن حريش: ما روى عنه سوى أبي سفيان، ولا يدرى من أبي سفيان .

                                                وقال عبد الغني في "الكمال" في باب الكنى: أبو سفيان روى عن عمرو بن حريش، روى عنه مسلم بن جبير، روى له أبو داود .

                                                ولم يذكر شيئا غير ذلك، ولكن لما أخرج أبو داود حديثه سكت عنه فيدل أنه مرضي عنده.

                                                وقال صاحب "التكميل": عمرو بن حريش أبو محمد الزبيدي، روى عن عبد الله بن عمرو قال: "أمرني رسول الله -عليه السلام- أن أجهز شيئا..." الحديث. وعنه أبو سفيان، وفي إسناد حديثه اختلاف، وقد قال عثمان بن سعيد ، عن ابن معين: هو حديث مشهور. وزعم ابن حبان في "الثقات" أن عمرو بن حبشي وعمرو بن حريش واحد، وليس كما قال، والله أعلم.

                                                قوله: "فنفدت الإبل" بالدال المهملة، أي: فنيت ولم يبق منها شيء، يقال: نفد الشيء - بالكسر - نفادا: أي فني وأنفدته، وأنفد القوم: أي ذهبت أموالهم.

                                                قوله: "في قلاص الصدقة" القلاص - بكسر القاف - جمع قلص - بضم القاف واللام - والقلوص جمع قلوص فتكون القلاص جمع الجمع. قال الجوهري: تجمع القلوص على قلص وقلائص مثل قدوم وقدم وقدائم، وجمع القلص قلاص مثل سلب وسلاب، والقلوص من النوق: الشابة، وهي بمنزلة الجارية من النساء.

                                                [ ص: 120 ] وقال العدوي: القلوص أول ما يركب من إناث الإبل إلى أن تثني، فإذا أثنت فهي ناقة، والقعود أول ما يركب من ذكور الإبل إلى أن يثني، فإذا أثنى فهو جمل، وربما سموا الناقة الطويلة القوائم القلوص.

                                                ومن فوائده: أنه يدل على جواز بيع بعير ببعيرين وشاة بشاتين، وإليه ذهب جماعة، ولكنه منسوخ بحديث ابن عباس الذي يأتي الآن.

                                                ومنها: أنه استدلت به طائفة على جواز السلم في الحيوان، وإليه ذهب الشافعي أيضا.

                                                وقال الخطابي: لأنه إذا باع بعيرا ببعيرين فقد صار ذلك حيوانا مضمونا عليه في ذمته، وكذلك السلم في معناه، فيصح.

                                                قلنا: إنه منسوخ كما ذكرنا؛ ولأن الحيوان في نفسه متفاوت فيفضى إلى المنازعة؛ فلا يصح.

                                                قوله: "وروي في ذلك" أي في نسخ بيع الحيوان بالحيوان: ما حدثنا محمد بن علي ... إلى آخره.

                                                وقد أخرج في ذلك عن أربعة من الصحابة، وهم: ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر، وسمرة بن جندب -رضي الله عنهم-.

                                                أما حديث ابن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن محمد بن علي بن محرز البغدادي ، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي ، عن سفيان الثوري ، عن معمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

                                                الثاني: عن فهد بن سليمان ، عن شهاب بن عباد - بتشديد الباء - العبدي الكوفي شيخ البخاري ومسلم ، عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي ، عن معمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

                                                [ ص: 121 ] وأخرجه البيهقي في "سننه": أنا العلوي، أنا أبو حامد بن الشرقي، نا أحمد بن يوسف، نا حفص بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة".

                                                ثم قال: وكذا رواه داود العطار ، عن معمر موصولا.

                                                وكذا روي عن الزبيري وعبد الملك الذماري ، عن الثوري ، عن معمر. وكل ذلك وهم.

                                                والصحيح عن عكرمة ، عن النبي -عليه السلام- مرسلا.

                                                ثم أخرجه كذلك من حديث الفريابي ، عن الثوري ، عن معمر، ثم قال: وكذا رواه عبد الرزاق وعبد الأعلى ، عن معمر .

                                                وكذا رواه علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلا.

                                                وروينا عن البخاري أنه وهن رواية من أوصله.

                                                ثم أخرج عن ابن خزيمة قال: الصحيح عند أهل المعرفة: هذا الخبر مرسل ليس بمتصل، ثم ذكر عن الشافعي أن حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة غير ثابت. انتهى.

                                                قلت: حاصله أنه اختلف على الثوري فيه؛ فرواه عنه الفريابي مرسلا، ورواه عنه الزبيري والذماري متصلا، واثنان أولى من واحد، كيف وقد تابعهما أبو داود الحفري، فرواه عن سفيان موصولا.

                                                [ ص: 122 ] كذا أخرجه عنه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، وظهر بهذا أن رواية من رواه عن الثوري موصولا أولى من رواية من رواه عنه مرسلا.

                                                واختلف أيضا على معمر فيه: فرواه عنه عبد الرزاق وعبد الأعلى مرسلا، على أن عبد الرزاق وإن كان رواه عن معمر مرسلا فقد رواه عن معمر: ابن طهمان والعطار موصولا، وتأيدت روايتهما بالرواية المذكورة عن عبد الرزاق، وبما ترجح من رواية الثوري، فظهر أن رواية من رواه عن معمر موصولا أولى، ومعمر أحفظ من علي بن المبارك؛ فروايته عن يحيى موصولا أولى من رواية ابن المبارك عنه مرسلا.

                                                وبالجملة فمن وصل حفظ وزاد؛ فلا يكون من قصر حجة عليه.

                                                وقد أخرج البزار هذا الحديث وقال: ليس في هذا الباب حديث أجل إسنادا منه.

                                                وقد ورد في هذا الباب أيضا حديث ابن عمر وحديث جابر على ما يأتي ذكرهما الآن وهو مما يؤيد ذلك أيضا.

                                                وأخرج الشافعي أيضا في "مسنده": عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم الجزري، أن زياد بن أبي مريم مولى عثمان أخبره: "أن النبي -عليه السلام- بعث مصدقا له فجاء بظهر مسنات، فلما نظره النبي -عليه السلام- قال: هلكت وأهلكت، قال: يا رسول الله، إني كنت أبيع البكرين والثلاثة بالبعير المسن يدا بيد وعلمت من حاجة رسول الله -عليه السلام- إلى الظهر، فقال -عليه السلام-: [فذاك إذا".

                                                قال ابن الأثير في "شرحه": يدل على صحة قول من منع النسيئة في الحيوان بالحيوان؛ لأنه لما قال له: يدا بيد أقره على فعله.

                                                فظهر بهذه الأحاديث المختلفة والطرق التي أيد بعضها بعضا: أن هذا الحديث ثابت خلافا للشافعي - رحمه الله -.

                                                [ ص: 123 ] وروى عبد الرزاق: أنا الثوري وإسرائيل ، عن عبد العزيز بن رفيع، سمعت محمد بن الحنفية: "يكره الحيوان بالحيوان نسيئة".

                                                ورواه عبد الرزاق: عن عكرمة، وعن أيوب وابن سيرين نحوه.

                                                وروى ابن أبي شيبة بسنده: عن عمار بن ياسر نحوه.

                                                وأما حديث جابر بن عبد الله: فأخرجه عن إبراهيم بن محمد الصيرفي البصري ، عن عبد الواحد بن عمرو بن صالح الزهري ، عن عبد الرحيم بن سليمان الأشل ، عن أشعث بن سوار ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر بن عبد الله .

                                                وهذا إسناد لا بأس به.

                                                وأشعث بن سوار وثقه يحيى في رواية وضعفه في أخرى.

                                                والحديث أخرجه الترمذي: نا أبو عمار الحسين بن حريث، قال: ثنا عبد الله بن نمير ، عن الحجاج - وهو ابن أرطاة - عن أبي الزبير ، عن جابر، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نساء، ولا بأس به يدا بيد".

                                                قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

                                                وأخرجه ابن ماجه وأحمد في "مسنده".

                                                وأما حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: فأخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ البغدادي نزيل مكة، وعن عبد الله بن محمد بن خشيش، وعن إبراهيم بن محمد الصيرفي البصري، ثلاثتهم عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب البصري

                                                [ ص: 124 ] شيخ البخاري وأبي داود ، عن محمد بن دينار الأزدي الطاحي البصري ، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري ، عن زياد بن جبير بن حية الثقفي البصري ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وهذا إسناد جيد حسن، ولا يلتفت إلى تضعيف البيهقي هذا الحديث بمحمد بن دينار الطاحي بما روي عن ابن معين أنه ضعيف؛ لأن أبا زرعة قال فيه: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وكذا قال ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة.

                                                وقال ابن عدي: حسن الحديث.

                                                والحديث أخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة": من طريق محمد بن دينار الطاحي ... إلى آخره نحوه.

                                                وأما حديث سمرة بن جندب فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن المنهال التميمي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن البصري ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه النسائي: أنا عمرو بن علي، نا يحيى بن سعيد ويزيد بن زريع وخالد بن الحارث، نا شعبة .

                                                وأخبرنا أحمد بن فضالة بن إبراهيم، نا عبيد الله بن موسى، نا الحسن بن صالح ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة".

                                                الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عفان بن مسلم الصفار ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                [ ص: 125 ] وأخرجه أبو داود: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة".

                                                الثالث: عن عبد الله بن محمد بن خشيش ، عن مسلم بن إبراهيم القصاب ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" نحوه، ثم قال: وأكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة غير حديث العقيقة.

                                                قلت: أخرج الترمذي الحديث المذكور ثم قال: حديث سمرة حديث حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح. هكذا قال علي بن المديني وغيره.

                                                وقال صاحب "الاستذكار": قال الترمذي: قلت للبخاري في قولهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، قال: سمع منه أحاديث كثيرة وجعل روايته عنه سماعا صحيحا، وصححها، وقال الترمذي في "جامعه": والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وبه يقول أحمد - رحمه الله -].

                                                وقد رخص بعض أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام- وغيرهم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو قول الشافعي وإسحاق .

                                                وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال الشافعي وأبو ثور وداود: لا ربا في الحيوان بحال، وجائز عندهم بيع بعضه ببعض نقدا أو نسيئة، اختلف أو لم يختلف، ولا ربا عندهم إلا في الذهب والورق وما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب على مذهب ابن المسيب .

                                                [ ص: 126 ] وقال الثوري وأبو حنيفة والحسن بن حي: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة؛ اختلف أو لم يختلف، وحجتهم: ما خرج أبو داود: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة"، وقاله محمد بن الحنفية وعكرمة .

                                                وقال الحسن: إذا اختلفا فلا بأس به إلى أجل، يقول: الغنم بالبقر، والبقر بالإبل، ولا خلاف في جواز بيع الحيوان بالحيوان متماثلا يدا بيد.




                                                الخدمات العلمية