الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال محمد بن الحسين لما علم أهل الفضل ، والعلم ، والمعرفة ، والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه ، وأنها عنده حقيرة قليلة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصدا وقدموا فضلا وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي لبسوا من الثياب ما ستر العورة وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية ، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا ، وعمروا بها الآخرة ونظروا ، إلى الآخرة بقلوبهم ، فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلا ، وتنعموا طويلا ، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحبوا ، ما أحب لهم ، وكرهوا ما كره لهم .

التالي السابق


(وقال محمد بن الحسن) .

هكذا في النسخ، وفي بعضها محمد بن الحسين، والمسمى بمحمد بن الحسن جماعة كثيرون; منهم محمد بن الحسن بن أنس الصغاني، ومحمد بن الحسن بن أبي الحسن البراد الكوفي، ومحمد بن الحسن بن زبالة المديني، ومحمد بن الحسن بن الزبير الكوفي، ومحمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، ومحمد بن الحسن بن عمران الواسطي، ومحمد بن الحسن بن هلال، ومحمد بن الحسن بن [ ص: 105 ] أبي يزيد الهمداني، والله أعلم أيهم أراده المصنف .

(لما علم أهل العقل، والعلم، والمعرفة، والأدب أن الله - عز وجل - قد أهان الدنيا) ، وحقر من شأنها، (وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة) المقدار، (وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها) ، ورغب عنها، (وحذر أصحابه من فتنتها) ، وضرب لهم في ذلك الأمثال كما سيأتي ذكرها (أكلوا منها قصدا) ، أي: مقتصدين لا إفراطا، ولا تفريطا، (وقدموا فضلا بين) أيديهم (وأخذوا منها ما يكفي) في عمارة البدن، (وتركوا ما يلهي) عن الله تعالى، (لبسوا من الثياب ما ستر العورة) ، واكتفوا به عن لبس ثياب الشهرة، (وأكلوا من الطعام أدناه) ، أي: أقله (مما سد الجوعة) ، وأمسك الرمق، (ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية) ، وكل ما فيها إلى زوال، (وللآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب) كناية عن التقليل، فإن الراكب مع الراحلة لا يحمل من الزاد إلا قدر ما يكفيه فقط، ولم يحمل الفضل (فخربوا الدنيا، وعمروا بها الآخرة، نظروا إلى الآخرة بعين قلوبهم، فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم صبروا قليلا، وتنعموا طويلا، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، أحبوا ما أحب لهم، وكرهوا ما كره لهم) ، ولله در القائل:


إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا

ولنختم هذا الفصل بكلام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، فيما يتعلق بالدنيا مما ذكره صاحب نهج البلاغة، وفي سياقه المشهى; إذ هو مستقى من بحر النبوة، قال - رضي الله عنه - في بعض خطبه: لا ترفعوا من رفعته الدنيا، ولا تشيموا بارقها، ولا تسمعوا ناطقها، ولا تجيبوا ناعقها، ولا تستضيئوا بإشراقها، ولا تفتنوا بأعلاقها، فإن برقها خالب، ونطقها كاذب، وأموالها محروبة، وأعلاقها مسلوبة، ألا وهي المتصدية العنون، والجامحة الحرون، والمانية الخؤون، والجحود الكنود، والعنود الصدود، والحيود الميود، حالها أثقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذل، وجدها هزل، وعلوها سفل، دار صرف، وسلب، ونهب، وعطب، أهلها على ساق وسباق ولحاق، قد تحيرت مذاهبها، وأعجزت مهاربها، وخابت مطالبها، فأسلمتهم المعاقل، ولفظتهم المنازل، وأعيتهم المحاول، فمن ناج معقور، ولحم مجزور، وشلو مذبوح، ودم مسفوح، وعاض على يديه، وصافق لكفيه، ومرتفق بخديه، وراد على رأيه، وراجع عن عزمه، وقد أدبرت الحيلة، وأقبلت العيلة، ولات حين مناص، هيهات هيهات، فات ما فات، وذهب ما ذهب، ومضت الدنيا لحال بالها، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .

وقال - رضي الله عنه - في خطبة له: والدنيا دار بني لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوة خضرة قد عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا فيها أكثر من البلاغ.

وقال - رضي الله عنه - في خطبة له: فإن الدنيا رتق مشربها ردغ مشرعها، بريق منظرها، ويؤبن مخبرها، غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل، حتى إذا أنس نافرها، واطمأن ناكرها قمعت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء ادهات المنية، قائدة له إلى ضنك المضطجع، ووحشة المرجع، ومعاينة المحل، وثواب العمل.

وقال - رضي الله عنه - في خطبة له: انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادقين فيها، فإنها والله عما قليل تزيل الساوي الثاوي الساكن، وتفجع المترف إلا من لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يرد ما هو آت منها، فينتظر سرورها، مشوب بالحزن، وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها، رحم الله امرءا تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكان ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن، وكان ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل، وكل معدود منقض، وكل متوقع آت، وكل آت قريب دان.

وقال - رضي الله عنه - في خطبة له: أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، ووافت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة، لا تعد، وإذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا بها أن تكون كما قال الله تعالى: [ ص: 106 ] كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا .

لم يكن امرؤ منها في حيرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا هشت عليه مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر منها جانب فأولى، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا، ولا يمسي منها جناح إلا أصبح على قوادم خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في أزوادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه، وزال عما قليل عنه، كم من واثق بهما قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا، سلطانها دول، وعيشها دنف، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وموفورها منكوب، وجارها محروب، ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، وأبقى آثارا، وأبعد آمالا، وأعد عديدا، وأكثف جنودا، تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، ثم ظعنوا منها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر قاطع، فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، وأحسنت لهم صحبة، بل أرهقتهم بالقوادح، وأدهشتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم، وأعانت عليهم ريب المنون .

فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها، وآثرها، وأخلد إليها، حتى ظعنوا منها لفراق الأبد، هل زودتهم إلا السغب، أو أحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون؟ أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن منها على وجل منها .

فاعلموا وأنتم تعملون بأنكم تاركوها، وظاعنون عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا: من أشد منا قوة حملوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الصفيح أجنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، ولا يبالون مندبة، إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا، جميعا وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد، متدانون لا يتزاورن، وقريبون ولا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، والدار الباقية; كما قال سبحانه: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين .

وقال - رضي الله عنه - في خطبة له: أما بعد، فإني أحذركم الدنيا، فإنها منزلة قلعة، وليست بدار نجعة، قد تزينت بغرورها، وغرت بزينتها، دار هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، لم يصطفها الله لأوليائه، وكم يضن بها على أعزائه، خيرها زهيد، وشرها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب، فما خير دار تنقص نقص البناء، وعمر يفنى فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع السير.

وقال - رضي الله عنه - في خطبة له: ثم إن الدنيا دار فناء، وعناء، وعبر، وغبر، فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه لا تخطئ سهامه، ولا تؤسى جراحه، يرى الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينفع، ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله لا مالا حمل، ولا بناء نقل، ومن غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا، والمغبوط مرحوما; ليس ذلك إلا نعيما ذل، وبؤسا نزل، ومن عبرها أن المرء يشرف على أمله، فيقتطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، ولا موت يترك، فسبحان الله! ما أغر سرورها، وأظمأ ريها، وأضحى فيئها لا جاء يرد، ولا ماض يرتد، فسبحان الله! ما أقرب الحي من الميت بلحاقه به، وأبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه أنه ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه، وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه، وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر.

وقال - رضي الله عنه - أيضا: وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما وراءها شيئا، والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها يتزود، والأعمى لها متزود.

وقال - رضي الله عنه - أيضا في خطبة له: وأحذركم الدنيا، فإنها دار [ ص: 107 ] شخوص، ومحلة تنقيص، ساكنها ظاعن، وقاطعها بائن، تميد بأهلها ميدان السفينة تصفقها العواصف في لجج البحار، فمنهم الغرق الموبق، ومنهم الناجي على متون الأمواج تحقره الرياح بأذيادها، وتحمله على أهوالها، فما غرق منها، فليس بمستدرك، وما نجا منها فإلى مهلك، وله - رضي الله عنه - كلام في هذا الباب كثير قد اقتصرت على ما ذكرت .




الخدمات العلمية