الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ومنها : أن هلال بن أمية ، ومرارة قعدا في بيوتهما ، وكانا يصليان في بيوتهما ، ولا يحضران الجماعة ، وهذا يدل على أن هجران المسلمين للرجل عذر يبيح له التخلف عن الجماعة ، أو يقال : من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين ، لكن يقال : فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عتب عليهما على التخلف ، وعلى هذا فيقال : لما أمر المسلمون بهجرهم تركوا : [ ص: 508 ] لم يؤمروا ولم ينهوا ولم يكلموا ، فكان من حضر منهم الجماعة لم يمنع ، ومن تركها لم يكلم ، أو يقال : لعلهما ضعفا وعجزا عن الخروج ، ولهذا قال كعب : وكنت أنا أجلد القوم وأشبهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين .

وقوله : وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ فيه دليل على أن الرد على من يستحق الهجر غير واجب ، إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه .

وقوله : حتى إذا طال ذلك علي ، تسورت جدار حائط أبي قتادة ، فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه .

وفي قول أبي قتادة له : الله ورسوله أعلم ، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له ، فلو حلف لا يكلمه ، فقال مثل هذا الكلام جوابا له لم يحنث ، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته ، وهو الظاهر من حال أبي قتادة .

وفي إشارة الناس إلى النبطي - الذي كان يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ - دون نطقهم له تحقيق لمقصود الهجر ، وإلا فلو قالوا له صريحا : ذاك كعب بن مالك ، لم يكن ذلك كلاما له ، فلا يكونون به مخالفين للنهي ، ولكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه . وقد يقال : إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له ، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه ، وهي ذريعة قريبة ، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع ، وهذا أفقه وأحسن .

وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى ، وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله ، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين له ، ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه ، فهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه ، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه ، ولطفه به وجبره لكسره ، وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره [ ص: 509 ] وما ينطوي عليه ، فهو كالكير الذي يخرج الخبيث من الطيب .

وقوله : فتيممت بالصحيفة التنور ، فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين ، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره ، وهذا كالعصير إذا تخمر ، وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر ، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه .

وكانت غسان إذ ذاك - وهم ملوك عرب الشام - حربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكانوا ينعلون خيولهم لمحاربته ، وكان هذا ( لما بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام ، وكتب معه إليه ، قال شجاع : فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق ، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر ، وهو جاء من حمص إلى إيلياء ، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، فقال : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه - وكان روميا اسمه مري - يسألني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكنت أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وما يدعو إليه ، فيرق حتى يغلب عليه البكاء ، ويقول : إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه ، فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني ، وكان يكرمني ويحسن ضيافتي .

وخرج الحارث يوما فجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأه ثم رمى به ، قال : من ينتزع مني ملكي ، وقال : أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته ، علي بالناس ، فلم تزل تعرض حتى قام ، وأمر بالخيول تنعل ، ثم قال : أخبر صاحبك بما ترى ، وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه ، فكتب إليه قيصر : أن لا تسر ، ولا تعبر إليه واله عنه ، ووافني بإيلياء ، فلما جاءه جواب كتابه ، دعاني فقال : متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ فقلت : غدا ، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة ، وقال : اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام ، فقدمت [ ص: 510 ] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته ، فقال : " باد ملكه " ، وأقرأته من حاجبه السلام ، وأخبرته بما قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق " ) : ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح ، ففي هذه المدة أرسل ملك غسان يدعو كعبا إلى اللحاق به ، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية