الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالمجتهد في تحصيل محبوبه ودفع مكروهه، هو المجاهد في سبيله، وهو الذي استفرغ وسعه في ذلك حتى جاهد أعداءه الظاهرين والباطنيين، فيجتمع في المجاهد في سبيله شيئان: كمال القصد، وكمال العمل.

فالأول: أن مقصوده هو الله، فهو معبوده ومحبوبه.

والثاني؟ أنه يستفرغ مقدوره في تحصيل هذا المقصود. [ ص: 143 ]

فهذا يهدى سبل الله.

وهذا مجرب في سائر المحبوبات، فكل من أحب شيئا محبة شديدة ولد له شدة المحبة طرق تحصيل المحبوب، وطرق المعرفة به. وكذلك من أبغض شيئا بغضا شديدا، ولد له شدة البغض طرق دفعه وإزالته، ولهذا يقال: الحب يفتق الحيلة، كما يقال: الحاجة تفتق الحيلة. فإن المحتاج محب لما احتاج إليه محبة شديدة.

وإنما يوقع النفوس في القبائح الجهل والحاجة، فأما العالم بقبح القبيح الغني عنه فلا يفعله، قال الله تعالى: الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ، وقد قال في ضد هؤلاء: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ، فبين أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فمن اتبع ما تهواه نفسه أضل عن سبيل الله، فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله، فلا قصد الحق، ولا ما يوصل إلى الحق، بل قصد ما يهواه من حيث هو يهواه، فتكون نفسه في الحقيقة هي مقصوده، فيكون كأنه يعبد نفسه، ومن يعبد نفسه فقد ضل عن سبيل الله قطعا، فإن الله ليس هو نفسه.

ولهذا لما كان حقيقة قول الاتحادية: إن الرب تعالى هو العالم نفسه، لا يميزون بين الرب الخالق وبين المخلوق المربوب، بل كل [ ص: 144 ] موجود فهو عندهم الرب العبد، كان حقيقة قولهم إنكار محبة الله ومعرفته وعبادته. فجعلوا المعبود بذاته إنما هو الهوى، كما قال صاحب الفصوص "فصوص الحكم" ابن عربي: "وكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى عليه، حكمة من الله ظاهرة في الوجود، ليعبد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد إما تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا عبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير- إلى أن قال- وأعظم محل فيه عبد وأعلاه الهوى، كما قال: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه فهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته " .

وهذا جهل منه حيث قال: "لا يعبد إلا بذاته"، فإن الهوى نفسه إن عني به المهوي، فكل ما هوي فهو هوى، فإذن كل ما هوي فقد هوي لذاته، فيبطل التخصيص.

وإن عني به نفس المصدر الذي هو نفس إرادة النفس مثلا، فذاك هو القصد والإرادة التي تكون عبادة، فكيف تكون العبادة هي المعبود؟

وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه.

فإذن هو يثاب على ما اتبعه من الحق، ويعاقب على ما اتبعه من [ ص: 145 ] الباطل، وذلك لأنه يكون إنما اتبع هواه في الموضعين، لم يتبع الحق لأنه حق.

التالي السابق


الخدمات العلمية