الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3326 - وعن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - قال : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها . رواه في " شرح السنة " .

التالي السابق


3326 - ( وعن سعيد بن المسيب ) : بفتح التحتية المشددة وقد تكسر ، وهو من أكابر التابعين ، بل أفضلهم ( قال : إنما نقلت فاطمة ) : أي : عن بيت زوجها ( لطول لسانها ) : أي : بأذيتها ( على أحمائها ) : أي : أقارب زوجها ( رواه ) : أي : صاحب المصابيح ( في " شرح السنة ) : أي : بإسناده . في شرح الهداية لابن الهمام ، قال الشافعي : لا نفقة للمبتوتة وهي المطلقة ثلاثا ، والمختلعة إذا لا بينونة عنده بغير ذلك إلا أن تكون حاملا ، فإن في بطنها ولده ، وحديث فاطمة بنت قيس رواه في صحيح مسلم إلى آخره قال : وأخرجه مسلم أيضا وقال فيه : لا نفقة لك ولا سكنى ، ورواه أيضا وقال فيه : إن أبا حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه ، وأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من تطليقها ، وعلى هذا فيحمل رواية الثلاث على أنه أوقع واحدة هي تمام الثلاثة ، وأمر لها الحارث بن هشام ، وعياش بن ربيعة بنفقة فسخطتها فقالا : والله ليس لك نفقة إلا أن تكوني حاملا ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له قولهما فقال : " لا نفقة لك " . زاد أبو داود في هذا بإسناد مسلم عقيب قول عياش بن ربيعة ، والحارث بن هشام : ولا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا . وفي شرح الكنز : نسبه إلى مسلم ، لكن الحق ما علمت فيه ، وفي رواية لمسلم : إن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن فقال : لها أهله : ليس لك علينا نفقة ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة . . . الحديث . والجواب : أن شرط قبول الخبر الواحد عدم طعن السلف فيه ، وعدم الاضطراب ، وعدم معارض يجب تقديمه ، والمتحقق في هذا الحديث ضد كل من هذه الأمور أما طعن السلف فقد طعن فيه أكابر الصحابة مما سنذكره ، مع أنه ليس من عادتهم الطعن بسبب كون الراوي امرأة ، ولا كون الراوي أعرابيا ، فقد قبلوا حديث فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها ، مع أنها لا تعرف إلا في هذا الخبر بخلاف فاطمة بنت قيس ، فإنها تعرف بذلك الخبر وتخبر الرجال أنها حفظته مع طوله ووعته وأدته ، ثم ظهر لها من الفقه ما أفاد علما وجلالة قدر ، وهو ما روي في صحيح مسلم : من أن مروان أرسل إليها قبيصة بن أبي ذؤيب ليسألها عن الحديث ، فقال مروان : لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : بيني وبينكم القرآن . قال الله تعالى : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) إلى قوله : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) قالت : هذا لمن كانت له مراجعة ، فأي أمر يحدث بعد ذلك ، فكيف : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها ، وقيل رد عمر خبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي ، فجزمنا أن رد عمر وغيره لخبرها ليس إلا لما علموه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفا له ، وقد استمر الحال عليه بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - بين السلف إلى أن روت فاطمة هذا الخبر ، مع أن عمر لما رده صرح بالرواية بخلافه في صحيح مسلم ، عن أبي إسحاق ، قال : كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي ، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، فأخذ الأسود كفا من حصباء فحصبه به ، وقال : ويلك ! تحدث بمثل هذا . قال عمر : لا نترك كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري حفظت أم نسبت لها السكنى والنفقة .

[ ص: 2179 ] قال الله تعالى : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة ) فقد أخبر أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لها السكنى والنفقة ، ولا ريب في أن قول الصحابي من السنة كذا رفع ، فكيف إذا كان قائله عمر - رضي الله تعالى عنه - ؟ وفيما رواه الطحاوي والدارقطني زيادة قوله : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " للمطلقة ثلاثا النفقة والسكنى " وقصارى ما هنا أن تعارض روايتها روايته ، فأي الروايتين يجب تقديمها ؟ وقال سعيد بن منصور : حدثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كان عمر - رضي الله تعالى عنه - إذا ذكر عليه حديث فاطمة قال : ما كنا نغير في ديننا بشهادة امرأة ، فهذا شاهد على أنه كان الدين المعروف المشهور وجوب النفقة والسكنى ، فينزل حديث فاطمة من ذلك منزلة الشاذ ، والثقة إذا شذ لا يقبل ما شذ فيه ، ويصرح بهذا ما في مسلم من قول مروان : سنأخذ بالعصمة التي وجد عليها الناس ، والناس إذ ذاك هم الصحابة ، فهذا في المعنى حكاية إجماع الصحابة ووصفه بالعصمة . وفي الصحيحين عن عروة أنه قال لعائشة : ألا تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة ، فخرجت فقالت : بئس ما صنعت . فقلت : ألم تسمعي إلى قول فاطمة ؟ فقالت : أما أنه لا خير لها في ذلك أو في ذكر ذلك ، هذا غاية الإنكار حيث نفت الحكم بالكلية ، وكانت عائشة - رضي الله عنها - أعلم بأحوال النساء ، فقد كن يأتين منزلها ويستفتين منه - عليه الصلاة والسلام - وكثر وتكرر ، وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت لفاطمة : ألا تتقي الله ؟ تعني في قولها لا سكنى ولا نفقة . وقال القاضي إسماعيل نصر بن علي ، حدثنا أبو هريرة عن محمد بن إسحاق قال : أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : إنما أخرجك هذا اللسان ، تعني أنها استطالت على أحمائها فأخرجها - عليه الصلاة والسلام - لذلك ويؤيد ثبوته عن عائشة - رضي الله عنها - أن سعيد بن المسيب احتج به وهو معاصر عائشة ، وكذا هو مستند سليمان بن يسار حيث قال : خروج فاطمة إنما كان من سوء الخلق ، رواه أبو داود في سننه عنه ، وممن رده زوجها أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث بن سعد ، حدثني جعفر ، عن أبي هريرة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : كان محمد بن أسامة بن زيد يقول : كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك يعني من انتقالها في عدتها رماها بما في يده ، اهـ .

هذا مع أنه هو الذي تزوجها بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أعرف بالمكان الذي نقلها عنه إلى منزله حين بنى بها ، هذا لم يكن قطعا ، إلا لعلمه بأن ذلك غلط منها ، أو لعلمه بخصوص سبب جواز انتقالها من اللسان أو ضيق المكان ، فقد جاء ذلك أيضا ، ولم يظفر المخرج - رحمه الله - بحديث أسامة فاستغربه ، والله الميسر ، وقال الليث : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فذكرت حديث فاطمة قال : فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث وخروجها قبل أن تحل ، وفي معجم الطبراني بسنده ، عن إبراهيم أن ابن مسعود ، وعمر - رضي الله عنهما - قالا : " المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة " وأخرج الدارقطني ، والطبراني عن حرب بن أبي العالية ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال : " المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة " . وقد تم بيان المعارض والطعن ، وأما بيان الاضطراب فقد سمعت في بعض الروايات أنه طلقها وهو غائب وفي بعضها طلقها ثم سافر وفي بعض الروايات ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته ، وفي بعضها أن خالد بن الوليد ذهب في نفر فسألوه - عليه الصلاة والسلام - وفي بعض الروايات - الزوج " أبا عمرو بن حفص " ، وفي بعضها " أبا جعفر بن المغيرة " والاضطراب موجب لضعف الحديث على ما عرف في علم الحديث ، وممن رد الحديث زيد بن ثابت ، ومروان بن الحكم ، ومن التابعين مع ابن المسيب شريح والشعبي والحسن والأسود بن يزيد ، وممن بعدهم الثوري وأحمد بن حنبل وخلق كثير ممن تبعهم ، فإن قيل : قال لها : لا نفقة لك ولا سكنى . قلنا : ليس علينا أولا أن نشتغل ببيان العذر عما روت ، بل يكفي ما ذكرنا من أنه شاذ مخالف لما كان عليه الناس ولمروي عمر كائنا هو نفسه ما كان إلا أن الاشتغال بذلك حسن حملا لمرويها على الصحة ، ونقول فيه : إن عدم السكنى كان لما سمعت ، وأن عدم النفقة فلأن زوجها كان غائبا ولم يترك مالا عند أحد سوى الشعير الذي بعث به إليها ، فطالبت هي أهله على ما في مسلم من طريق أنه طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله : ليس لك نفقة . الحديث ، فلذلك قال - عليه الصلاة والسلام - لها : " لا نفقة لك ولا سكنى " على تقدير صحته لأنه لم يخلف مالا عند أحد ، وليس يجب لك على أهله [ ص: 2180 ] شيء فلا نفقة لك على أحد بالضرورة ، فلم تفهم هي الغرض عنه - عليه الصلاة والسلام - فجعلت تروي نفي النفقة مطلقا ، فوقع إنكار الناس عليها ، ثم إن في كتاب الله - تعالى - من غير ما نظرت به فاطمة بنت قيس ما يفيد وجوب النفقة والسكنى لها ، وهو قوله تعالى : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) وقد علم أن المراد : وأنفقوا عليهن من وجدكم ، وبه جاءت قراءة ابن مسعود المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفسرة له ، وهذه الآية إنما هي في البوائن بدليل المعطوف ، وهو قوله تعالى عقيبه : ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) ولو كانت في غير المطلقات أو في المراجعات كان التقدير : أسكنوا الزوجات أو الرجعيات من حيث سكنتم من وجدكم وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن ، معلوم أنه لا معنى حينئذ لجعل غاية إيجاب الإنفاق عليه إلى الوضع ، فإن النفقة واجبة لهما مطلقا حاملا كانت أو لا . وضعت حملها أو لا . بخلاف ما إذا كانت في البوائن ، فأفاد التقييد بالغاية دفع توهم عدم النفقة على المعتدة الحامل في تمام عدة الحمل لطولها ، والاقتصار على قدر ثلاث حيض ، أو ثلاثة أشهر ، وكذا قوله تعالى : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) فإنه عام في المطلقات ، وقوله تعالى : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ) إلى الرجعيات منهن ، وذكر حكم خاص ببعض ما تناوله الصدر لا يبطل عموم الصدر . تم كلام المحقق ، والله الموفق .




الخدمات العلمية