الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذه أمثلة الدنيا ، وآفاتها ، وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه .

.

التالي السابق


(فهذه أمثلة الدنيا، وآفاتها، وغوائلها) ، وقد بقيت للدنيا أمثلة خطرت بالفكر عند كتابتي لهذا الموضوع لا بأس بذكرها .

فمنها مثال للدنيا في انقطاعها، وفنائها، وإن كانت مدتها أكثر مما هي بالإضافة إلى الآخرة، بل لو فرض أن السموات والأرض مملوآت خردلا، وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة، فني الخردل، والآخرة لا تفنى، فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل .

روى الطبراني في الكبير من حديث المستورد بن شداد مرفوعا: ما أخذت الدنيا [ ص: 116 ] من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غرس في البحر من مائه.

مثال آخر للدنيا، وأهلها: اعلم أن الدنيا مشتقة من الدناءة، وهي الخسة والحقارة، وهي شبه جيفة متغيرة منتنة، والمتكالبون على حوزها لأنفسهم بمثابة الكلاب العادية كاشرة أنيابها، وقد تقدم في قول علي - رضي الله عنه - تشبيهها كذلك، وكذا في قول غيره، ويستأنس له بقوله تعالى: وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ، أي: جيفة متغيرة روي عن الأصمعي أنه قال: يقال: متع اللحم إذا راح وتغير .

مثال آخر للدنيا في سرعة انفضاضها هي كالسوق التي يجتمع فيها الناس لقضاء أغراضهم من بيع وشراء، وغير ذلك، فعن قريب يعود كل إلى منزله، وتنفض السوق .

ورد في بعض الأخبار أن الدنيا كسوق قام، ثم انفض; ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر .

مثال آخر للدنيا في شدة عنائها: هي كالبحر العميق الذي لا حد لقعره، وله أمواج متلاطمة، وفيه تماسيح فاغرة فاها، وقد جعل في أسفله من نفائس الجواهر، فمن أراد غورها وقع فيها، وغرق، ولم يخلص .

قال بعض أهل العلم في تفسير قوله تعالى: ومنهم من أغرقنا ، أي: في بحر الدنيا، وتقدم قول لقمان: إن الدنيا بحر عميق، وقال الحريري:


فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل

مثال آخر للدنيا: هي بمنزلة الكنيف الذي يحتاجه الإنسان في وقت دون وقت، فينبغي أن يأخذ الإنسان منها بلغة على قدر الاحتياج، كما يحتاج إلى الكنيف تارة، ولا يدخلها إلا ضرورة، وكلما استغنيت عن دخولك الكنيف كان أجود .

مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها: هي كالكنيف المبيض، أو الروث المفضض، فإن ظاهرها يغر الإنسان بزينته، وباطنها لا شيء ينتفع به .

مثال آخر للدنيا: هي بمنزلة الحمام إنما يدخل فيه للمعالجة، فخذ منه ما ينقي الدرن، ويذهب الصنة، ويذكر النار، فإذا قارب أن يأخذ منك فاهرب منه، وفيه قال الشاعر:


خذ من الحمام واخرج قبل أن يأخذ منك
حدثن عنه وإلا حدث الحمام عنك

مثال آخر للدنيا في إصابتها لبعض وإخطائها لآخرين: هي بمنزلة امرأة صماء عمياء ردماء في حجرها جواهر، وهي قاعدة على حجر مدور يتبعها أناس كثير يلتمسون ما عندها، وهي لا تسمع قولا، ولا ترى وجها، وقد اعتزل عنها قوم قليلو العدد، وقعدوا على حجرة، وهي تولي في كل ساعة قبضة مما في حجرها واحدا من القوم لا تخص، بل ربما تخطئهم، وربما تعطيهم كأنها المعنية لهم بقول الشاعر:


لا تمدحن ابن عباد وإن كثرت كفاه جودا ولا تذممه إن ردما
فليس ينحل إبقاء على نشب ولن يجود بفضل المال معتزما
لكنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما

وتارة تعرج على من أعطته، فتسلبه سلبا، وتدوسه دوسا بحجرها .

مثال آخر للدنيا: هي بمنزلة خان قد بني على قارعة الطريق، ومقتنياتها آلات موضوعة فيه يصلح الانتفاع بها ما دام المسافر نازلا في ذلك الخان، فيتناول منها مقدار الكفاية، ويتسلى عنها عند الراحلة، ويستهجن بنفسه أن يكذب، أو يغضب، ويحزن، ويرتكب القبائح في سببها، وهذا المثال قد يستنبط من آخر الأمثلة التي ذكرها المصنف، ولكن تشبيهها بدار الضيافة، وإن كان مآلها، أي: محصلها واحد فتأمل .

مثال آخر للدنيا: هي بمنزلة صديقك الذي يظهر لك الصداقة في الظاهر، ويحفر وراءك ليوقعك في الهلاك، فهي تغر بزينتها لمن أقبل عليها وأحبها، ولكنها في الباطن تختله، وتورده موارد الهلاك، فهي عدوة محبوبة، وإياه عنى أبو نواس بقوله:


إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق

وروي عن الحسن، قال: ما مثلنا مع الدنيا إلا كما قال كثير:


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ولا مقلية إن تقلت






الخدمات العلمية