الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ حكم رجوع المفتي عن فتواه ] الفائدة الأربعون : في حكم رجوع المفتي عن فتياه ، إذا أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول فقيل : يحرم عليه العمل به ، وعندي في المسألة تفصيل ، وأنه لا يحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتي ، بل يتوقف حتى يسأل غيره ، فإن أفتاه بموافقة الأول استمر على العمل به ، وإن أفتاه بموافقة الثاني ، ولم يفته أحد بخلافه ; حرم عليه العمل بالأول ، وإن لم يكن في البلد إلا مفت واحد سأله عن رجوعه عما أفتاه به ، فإن رجع إلى اختيار خلافه مع تسويغه لم يحرم عليه ، وإن رجع لخطأ بان له وأن ما أفتاه به لم يكن صوابا حرم عليه العمل بالأول ، هذا إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي ، فإن كان رجوعه لمجرد ما بان له أن ما أفتى به خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتي ما أفتاه به أولا إلا أن تكون المسألة إجماعية .

فلو تزوج بفتواه ودخل ثم رجع المفتي لم يحرم عليه إمساك امرأته إلا بدليل شرعي يقتضي تحريمها ، ولا يجب عليه مفارقتها بمجرد رجوعه ، ولا سيما إن كان إنما رجع لكونه تبين له أن ما أفتى به خلاف مذهبه وإن وافق مذهب غيره ، هذا هو الصواب .

وأطلق بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي وجوب مفارقتها عليه ، وحكوا في ذلك وجهين ، ورجحوا وجوب المفارقة ، قالوا : لأن الرجوع عنه ليس مذهبا له كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول مع الإمام في الأصح .

فيقال لهم : المستفتي قد دخل بامرأته دخولا صحيحا سائغا ، ولم يفهم ما يوجب مفارقته لها من نص ولا إجماع ، فلا يجب عليه مفارقتها بمجرد تغير اجتهاد المفتي ، وقد رجع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن القول بالتشريك وأفتى بخلافه ولم يأخذ المال من الذين شرك بينهم أولا ، وأما قياسكم ذلك على من تغير اجتهاده في معرفة القبلة فهو حجة [ ص: 172 ] عليكم ; فإنه لا يبطل ما فعله المأموم بالاجتهاد الأول ، ويلزمه التحول ثانيا ; لأنه مأمور بمتابعة الإمام . بل نظير مسألتنا ما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ من الصلاة ; فإنه لا تلزمه الإعادة ، ويصلي الثانية بالاجتهاد الثاني . وأما قول أبي عمرو بن الصلاح وأبي عبد الله بن حمدان من أصحابنا : " إذا كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين فإذا رجع لكونه بان له قطعا أنه خالف في فتواه نص مذهب إمامه فإنه يجب نقضه ، وإن كان ذلك في محل الاجتهاد ; لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل " فليس كما قالا ، ولم ينص على هذه المسألة أحد من الأئمة ، ولا تقتضيها أصول الشريعة ، ولو كان نص إمامه بمنزلة نص الشارع لحرم عليه وعلى غيره مخالفته وفسق بخلافه .

ولم يوجب أحد من الأئمة نقض حكم الحاكم ولا إبطال فتوى المفتي بكونه خلاف قول زيد أو عمرو ، ولا يعلم أحد سوغ النقض بذلك من الأئمة والمتقدمين من أتباعهم ، وإنما قالوا : ينقض من حكم الحاكم ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة ، ولم يقل أحد : ينقض من حكمه ما خالف قول فلان أو فلان ، وينقض من فتوى المفتي ما ينقض من حكم الحاكم ، فكيف يسوغ نقض أحكام الحكام وفتاوى أهل العلم بكونها خالفت قول واحد من الأئمة ؟ ولا سيما إذا وافقت نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فتاوى الصحابة يسوغ نقضها لمخالفة قول فلان وحده ، ولم يجعل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الأئمة قول فقيه من الأمة بمنزلة نص الله ورسوله بحيث يجب اتباعه ويحرم خلافه .

فإذا بان للمفتي أنه خالف إمامه ووافق قول الأئمة الثلاثة لم يجب على الزوج أن يفارق امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل أولاده بمجرد كون المفتي ظهر له أن ما أفتى به خلاف نص إمامه ، ولا يحل له أن يقول له : " فارق أهلك " بمجرد ذلك ، ولا سيما إن كان النص مع قول الثلاثة . وبالجملة فبطلان هذا القول أظهر من أن نتكلف بيانه .

فإن قيل : فما تقولون لو تغير اجتهاد المفتي ، فهل يلزمه إعلام المستفتي ؟ قيل : اختلف في ذلك ; فقيل : لا يلزمه إعلامه ، فإنه عمل أولا بما يسوغ له ، فإذا لم يعلم بطلانه لم يكن آثما فهو في سعة من استمراره ، وقيل : بل يلزمه إعلامه ; لأن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه ، وبان له أن ما أفتاه به ليس من الدين ، فيجب عليه إعلامه ، كما جرى لعبد الله بن مسعود حين أفتى رجلا بحل أم امرأته التي فارقها قبل الدخول ، ثم سافر إلى المدينة وتبين له خلاف هذا القول ، فرجع إلى الكوفة ، وطلب هذا الرجل ، وفرق بينه وبين أهله ، [ ص: 173 ] وكما جرى للحسن بن زياد اللؤلؤي لما استفتي في مسألة فأخطأ فيها ، ولم يعرف الذي أفتاه به ، فاستأجر مناديا ينادي أن الحسن بن زياد استفتي في يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه ، ثم لبث أياما لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ ، وأن الصواب خلاف ما أفتاه به .

قال القاضي أبو يعلى في كفايته : من أفتى بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به ، وإلا أعلمه .

والصواب التفصيل ، فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعا لكونه خالف نص الكتاب أو السنة التي لا معارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه إعلام المستفتي ، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتي .

وعلى هذا تخرج قصة ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة ، بينوا له أن صريح الكتاب يحرمها لكون الله تعالى أبهمها فقال تعالى : { وأمهات نسائكم } وظن عبد الله أن قوله : { اللاتي دخلتم بهن } راجع إلى الأول والثاني ، فبينوا له أنه إنما يرجع إلى أمهات الربائب خاصة ، فعرف أنه الحق ، وأن القول بحلها خلاف كتاب الله - تعالى ، ففرق بين الزوجين ، ولم يفرق بينهما بكونه تبين له أن ذلك خلاف قول زيد أو عمرو ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية