الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  144 باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء : جدار أو نحوه

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي : هذا باب فباب مرفوع على الخبرية منون لعدم صحة الإضافة ، قوله : « لا يستقبل القبلة " يجوز فيه الوجهان ، أحدهما : أن يكون تستقبل ، بضم التاء المثناة من فوق على صيغة المجهول ، وقوله : « القبلة " مرفوع ; لأنه مفعول ناب عن الفاعل " والآخر : أن يكون يستقبل ، بفتح الياء آخر الحروف على صيغة المعلوم ، أي : لا يستقبل قاضي حاجته القبلة ، والقبلة منصوب به ، ولام يستقبل يجوز فيها وجهان أيضا ، أحدهما : الضم على أن تكون لا نافية ، والآخر : الكسر على أن تكون ناهية ، قوله : « بغائط " الباء فيه ظرفية .

                                                                                                                                                                                  وفي المحكم : الغائط والغوط المتسع من الأرض مع طمأنينة ، وجمعه أغواط وغياط وغيطان ، وكل ما انحدر من الأرض فقد غاط ، ومن بواطن الأرض المنبتة الغيطان ، الواحد منها غائط ، وزعموا أن الغائط ربما كان فرسخا ، والغائط اسم للعذرة نفسها ; لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان ، وقيل : لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط ، وتغوط الرجل كناية عن الخرأة ، والغوط أغمض من الغائط وأبعد ، وفي الصحاح : وجمع الغائط غوط ، وفي المخصص : الغائط أصله المطمئن من الأرض ، وسمي المتوضأ غائطا ; لأنهم كانوا يأتونه لقضاء الحاجة ، ثم سمي الشيء بعينه غائطا ، وقراءة الزهري ( أو جاء أحد منكم من الغيط ) مخففة الياء وأصله الغوط ، وقيل : لكل من قضى حاجته : قد أتى الغائط ، يكنى به عن العذرة .

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : أصله المطمئن من الأرض ، كانوا يأتونه للحاجة ، فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لذكره بخاص اسمه ، ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها واستعمال الكناية في كلامها وصون الألسنة عما تصان الأبصار والأسماع عنه . قلت : الحاصل أنه استعمل للخارج ، وغلب على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية ; لكن لا يقصد به إلا الخارج من الدبر فقط للتفرقة في الحديث بينهما في قوله : « بغائط أو بول " وقد يقصد به ما يخرج من القبل أيضا ; فإن الحكم عام .

                                                                                                                                                                                  وفي العباب : غاط في الشيء يغوط ويغيط غوطا وغيطا دخل فيه ، يقال : هذا رمل تغوط فيه الأقدام وتغيط ، والغوط والغائط المطمئن من الأرض الواسع ، وقال ابن دريد : الغوط أشد انحطاطا من الغائط وأبعد ، وفي قصة نوح عليه الصلاة والسلام انسدت ينابيع الغوط الأكبر وأبواب السماء ، والجمع غوط وأغواط وغياط ، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، والغائط أيضا الغوط من الأرض ، والغوطة الوهدة في الأرض المطمئنة ، والتركيب يدل على اطمئنان وغور .

                                                                                                                                                                                  قوله : « إلا عند البناء " استثناء من قوله : « لا يستقبل القبلة " وقال الإسماعيلي : ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء الذي ذكره ، ثم أجاب عن ذلك بما حاصله أنه أراد بالغائط معناه اللغوي لا معناه العرفي ، فحينئذ يصح استثناء الأبنية منه ، وقال بعضهم : هذا قوي الأجوبة . قلت : ليس كذلك ; لأنهم لما استعملوه للخارج وغلب هذا المعنى على المعنى الأصلي صار حقيقة عرفية غلبت على الحقيقة اللغوية ، فهجرت حقيقته اللغوية ، فكيف تراد بعد ذلك ؟ وقال ابن بطال : هذا الاستثناء ليس مأخوذا من الحديث ، ولكن لما علم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما استثناء البيوت بوب به ; لأن حديثه عليه الصلاة والسلام كله كأنه شيء واحد ، وإن اختلفت طرقه ، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة وإن كثر ، وتبعه ابن المنير في شرحه واستحسنه بعض الشارحين . قلت : فعلى هذا كان ينبغي أن يذكر حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب عقيب حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : [ ص: 276 ] يحتمل أن يكون أي : الاستثناء المذكور مأخوذا من هذا الحديث ، يعني حديث أبي أيوب إذ لفظ الغائط مشعر بأن الحديث ورد في شأن الصحارى إذ الاطمئنان ، أي : الانخفاض والارتفاع إنما يكون في الأراضي الصحراوية لا في الأبنية . قلت : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وقال ابن المنير : إن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء ، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا . قلت : كل من توجه إلى نحو الكعبة يطلق عليه أنه مستقبل الكعبة سواء كان في الصحراء أو في الأبنية ; فإن كان في الأبنية فالحائل بينه وبين القبلة هو الأبنية ، وإن كان في الصحراء فهو الجبال والتلال ، والصواب أن يقال : إن الحديث عنده عام مخصوص ، وعليه يوجه الاستثناء .

                                                                                                                                                                                  قوله : « جدار " بالجر بدل من البناء ، قوله : « أو نحوه " أي : نحو الجدار كالأحجار الكبار والسواري والأساطين ونحو ذلك ، وفي رواية الكشميهني "أو غيره" وهما متقاربان ، ووجه المناسبة بين البابين ظاهر .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية