الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية..، والتمتع كرهه عمر، لأنه أحب عمارة البيت بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم، تحقيقا لدعوة إبراهيم عليه السلام بقوله:

فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم .

ورخص الشرع في ذلك نظرا لأرباب الدور البعيدة ، وليجمعوا بين النسكين في أيام الحج، مراغمة لأهل الجاهلية، في جعلهم العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وأكبر الكبائر.

وسماه الله تعالى تمتعا، لأنه تمتع بربح سفر العمرة.

ولزمه الدم لذلك، ولم يجب على حاضري المسجد الحرام، لأنهم لم يربحوا سفرا.

وأبو حنيفة يقول: لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، فإن قرن منهم قارن أو تمتع، فهو مخطئ، وعليه دم لا يأكل منه، لأنه ليس هو بدم متعة، إنما هو دم جناية. [ ص: 100 ] والشافعي يقول: لهم أن يتمتعوا بلا هدي..

واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . فانصرف ظاهره إلى القران والمتعة، أي: ليس للحاضرين ذلك، ولو كان المراد به الدم لقال: "ذلك على من لم يكن" .

والشافعي يقول: لهم، بمعنى عليهم، وإلا فالنسك لا يختلف في متعة أهل مكة من القران.

والتمتع دليل على أن القران. رخصة، لكنه رآها لأرباب المسافة البعيدة، وذلك يقتضي كون الإقران أفضل، لأن الرخصة لا تكون أفضل، بل هي لمكان الحاجة، وكونه رخصة يقتضي كون الدم دم جبر، حتى لا يؤكل منه خلافا لأبي حنيفة.

ثم اعتقد أبو حنيفة أن استثناء أهل مكة، إنما كان لإلمامهم بالأهل، فالإلمام بالأهل بين العمرة والحج في حق الآفاقي، يمنع كونه متمتعا، ولم ينظر إلى صورة السفر، وقال: إذا خرج من مكة حتى جاوز الميقات، فهو متمتع، إن حج من عامه ذلك، إذا لم يلم بأهله بعد العمرة.

وقال أبو يوسف: إنه ليس بمتمتع، لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلده، لأن الميقات صار بينه وبين مكة، فكان بمنزلة عوده إلى أهله، وزعموا أنه لو أحرم بالعمرة في رمضان، واعتمر في شوال، وحج من عامه، كان متمتعا، وإن وقع الإحرام في غير أشهر الحج، [ ص: 101 ] وقالوا: يعتبر وقوع أكثر الطواف في أشهر الحج، فإن وقع في غيره لم يكن متمتعا، يعني الأكثر.

وشيء من ذلك لا يعتبر عندنا..

وأما حاضرو المسجد الحرام، فهم من كان دون مسافة القصر عند الشافعي، ودون الميقات عند أبي حنيفة، ويبعد جعل أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام، وبينهم وبين مكة مسيرة عشرة أيام.

وذكر عبد الله بن الزبير، وعروة بن الزبير متعة أخرى: وهو أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة، ويتمتع بحجه إلى العام القابل ويحج، فهدا المتمتع بالعمرة إلى الحج، فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل، ولكنه يبقى على إحرامه، حتى ينحر عنه الهدي يوم النحر، ثم يحلق ويبقى على إحرامه، حتى يقدم مكة فيتحلل بعمل عمرة من حجه..

والذي ذكره ابن الزبير بخلاف عموم قوله: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي بعد قوله: وأتموا الحج والعمرة لله ، ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة، والنبي عليه السلام وأصحابه حين حصروا بالحديبية، حلق وحل وأمرهم بالإحلال، وعلى أن الذي يلزم بالفوات، ليس بعمرة، وإنما هو مثل عمل عمرة، وهي من أعمال الحج.

والله عز وجل يقول: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، فجعل الهدي معلقا بفعل العمرة والحج، [ ص: 102 ] والدم الذي يلزمه هو بالإحصار، غير متعلق بوجود الحج بعد العمرة، وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء، لا على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج.

نعم إذا بان أنه ليس بعمرة، فالذي قاله أبو حنيفة، من وجوب قضاء الحج والعمرة على المحصر بعد التحلل ليس بصحيح.

المتعة الأخرى: وهي فسخ الحج، إذا طاف له قبل يوم النحر، وهذا الحكم غير ثابت، إلا على قول ابن عباس، فإنه كان يراه على ما رواه عطاء عنه، وأنه كان يقول: لا يطوف أحد بالبيت قبل يوم النحر إلا حل من حجه، فقيل له: من أين قلت ذلك؟ ..

فقال: من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره الناس في حجة الوداع أن يحلوا، ومن قول الله تعالى: ثم محلها إلى البيت العتيق ، وتظاهرت الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج، من لم يكن معه منهم هدي، ولم يحل هو عليه السلام وقال:

"إني سقت الهدي فلا أحل إلى يوم النحر" ، ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية، حين أرادوا الخروج إلى منى، وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج.

وروي عن بلال بن الحارث المزني أنه قال: قلت: يا رسول [ ص: 103 ] الله، فسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ ..

فقال: لا، بل لنا خاصة.


وقال أبو ذر : لم يكن فسخ الحج بعمرة، إلا لأصحاب رسول الله..

وقال قوم: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال، كان على وجه آخر، وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا، وينتظرون ما يؤمرون به، وكذلك أهل على اليمن، وكذلك كان إحرام النبي عليه السلام، ويدل عليه قوله عليه السلام:

"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" .

وكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به، وبه أمر أصحابه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:

"أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك -وهو بوادي العقيق- فقال: صل بهذا الوادي وقل حجة في عمرة" . [ ص: 104 ] فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج منتظرا ما يؤمر به، فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة، ثم أهل أصحاب النبي عليه السلام بالحج، وظنوا أنه أمرهم بذلك، فلم يكن إحرامهم صحيحا، أو مروا بالمتعة بأن يطوفوا البيت، ويحلوا ويعملوا عمل العمرة ويحرموا بالحج، كما يؤمر من يحرم بشيء لا يسميه أنه يجعله عمرة إن شاء، وهذا ليس له وجه، فإن الصرف إلى الحج إن لم يصح، فلا حاجة إلى الفسخ، وإن صح ففسخه هو الحكم المنسوخ.

ولأن المقصود إبانة حكم مفسوخ، وفي وقتنا هذا تمام العمرة، إذا صرف إلى أحد النسكين، تعين فلا يقبل الفسخ..

والصحيح في ذلك ما ذكرته عائشة، وقد أنكرت أن يكون النبي عليه السلام، أمر بفسخ الحج على حال، وقالت:

"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من قرن" ، فمن أهل بحج مفرد أو قرن، لم يحل حتى يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة وطاف وسعى، حل من إحرامه حتى يستقبل حجا..

وروي عن أصحاب أبي حنيفة، بناء على الأقوال الأولى، أن هدي المتعة لا يجزئ قبل يوم النحر، لأن النبي عليه السلام قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" .

وقد كان النبي عليه السلام قارنا وقد ساق الهدي، وقال لعلي: "إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر" ، فدل على امتناع جواز ذبح الهدي للمتعة قبل يوم النحر. [ ص: 105 ] وهذا فاسد، فإنه بينا أن النبي عليه السلام، لم يأمر أحدا بفسخ الحج وجعله عمرة، وأن الأمر على ما قالته عائشة، وإنما قال عليه السلام ما قال، لأنهم التمسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمر معهم، فذكر أنه أحرم بالحج وأنه لا يقضي مناسكه، إلا في يوم النحر وبعده.

وكانت عائشة وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالت: أكل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا أنصرف بنسك واحد؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، فاعتمرت وانصرفت بنسكين.

وقوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام الآية (196). يدل على أن صيام الثلاثة الأيام يجب أن يقع في الحج، لا كما قال أبو حنيفة، إنه يجوز ذلك بعد الإحرام بالعمرة، قبل الإحرام بالحج..

وقوله تعالى: في الحج : إما أن يكون المراد به: في الإحرام بالحج، أو في أشهر الحج، وأحد المعنيين خلاف الإجماع فتعين الثاني.. وكيف يجوز أن يعلق البدل على عدم الأصل، ثم يجوز البدل في غير وقت جواز الأصل؟

وإن زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر" ، فهذا هو التحلل من الحج لا غيره. [ ص: 106 ] ولأصحاب الشافعي خلاف في جواز تقديم العبادة المالية على وقت الوجوب إذا وجد سببها.

ولكن سبب البدل يكون بسبب الأصل لا محالة، فأما أن يمتنع الأصل، ولا يمتنع البدل فلا وجه له، وبه يعلم أن لا سبب قبل الإحرام بالحج، فإنه إنما يمتنع بإخلاء بعض وقت الحج عن الإحرام بالحج وشغله بغيره، فلا يظهر ذلك ولا يتحقق، قبل الإحرام بالحج.

ولأجل بناء البدل على الأصل قلنا: إن لم يصم المتمتع قبل يوم النحر، صام الثلاث بعد أيام التشريق.

وقال أبو حنيفة: لا يصوم بعد أيام الحج، ويصوم قبل الإحرام بالحج وأيامه، وهذا تناقض بين، وقصارى قوله تعالى: في الحج بيان وقت الجواز، وأنه يتهيأ له في تلك الحالة، لأنه يكون على صورة المقيمين، وإلا فصيام الثلاثة والسبعة والهدي ميقاتها واحد، ويجوز تأخيرها عندنا بعذر السفر، وهو كأداء الكفارات بعد وجوبها من غير فرق.

وسوى أصحاب الشافعي بين الأصل والبدل، وصيام السبعة والثلاثة في أن جميعها شيء واحد.

وفرق أبو حنيفة وأصحابه بينهما وقالوا: إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم قبل أن يحل، فعليه الهدي ويبطل حكم الصوم.

وعند الشافعي: كما لا يبطل صوم السبعة بوجود الهدي بعد الثلاثة، فكذلك بعد الصوم في أول اليوم أو في ثانيه، لأن الله تعالى قال: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم (196)فجعل الجميع بدلا. [ ص: 107 ] وزعم المخالف أن صوم الثلاثة يتوقف عليها الحل، ففرض الهدي قائم عليه، ما لم يحل وتمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق، فمتى وجد فعليه أن يهدي، وزعموا أن الهدي مشروط للإحلال، لأنه لا يجوز أن يحل قبل ذبح الهدي، لقوله تعالى:

ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله .

فمن لم يحل حتى وجد الهدي، فعليه الهدي، لأن الله عز وجل لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم أو بعده، وهذا غلط، ولو كان وجوب الهدي لمكان التوصل به إلى الإحلال، ما ثبت وجوبه إلا على هذا الوصف، ويسقط بالإحلال دون الهدي، إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة، وهذا خلاف الإجماع. ولأنه أوجب الهدي على المتمتع، فكان ذلك مضافا إلى تمتعه لا إلى غيره، وذلك لا يستدعي وصف الإحلال، ولو كان لوصف الإحلال، لما شرع صوم السبعة بدلا عن الهدي بعد الإحلال، لأن البدل يقصد به ما قصد بالأصل، ولا يجوز أن يشرع بعض البدل لمقصود، وبعضه لمقصود آخر..

نعم أوجب الله تعالى عليه الهدي أولا جزاء على تمتعه، فإذا لم يجد أوجب الصوم، فإذا ابتدأ الصوم ها هنا أو صوم الظهار، فقد صح الصوم، ومتى صح الصوم، سقط عنه فرض الرقبة والهدي لصحة الجزاء المفعول عنه، ولذلك قالوا في المتيمم إذا رأى الماء في خلال صلاته، إن فرض الطهارة بالماء يسقط عنه لهذه الصلاة، فخرج الوضوء عن كونه شرطا في حق هذه الصلاة، وليس يمكن أن يقال إن الصلاة أو الصوم موقوفان لا يحكم بصحتهما، فإن الوقف إنما يكون إذا لم تكمل شرائط الصحة، فأما إذا كملت الشرائط فلا يمكن أن يجعل موقوفا، ولو بطلت العبادة، فليس بطلانها نظرا إلى الحال، بل لمكان [ ص: 108 ] الفساد فيما مضى، وفساده فيما مضى لعدم شرطه فيما مضى..

قوله تعالى: وسبعة إذا رجعتم ، يحتمل الرجوع إلى أهله، ويحتمل الصوم في الطريق في حالة الرجوع من منى.

وقوله: كاملة ، يحتمل أنها كاملة في قيامها مقام الهدي.

ويحتمل أن يزيل به خيال تأويل مستكره، وهو أن الواو ربما تذكر بمعنى "أو"، فأزال هذا الاحتمال بقوله: كاملة .

وجعل الشافعي هذا من البيان الأول، فقيل له: قوله: ثلاثة وسبعة، غير مفتقر إلى البيان، فكيف يعده من أقسام البيان؟ ..

فأجاب بأنه لا يحتاج إلى بيان ليخرج به عن حد الإشكال، ولكنه يخرج به عن حد الاحتمال البعيد الضعيف، فجعلناه في أول أقسام البيان، لأن معناه تجلى على وجه لا مرتقى بعده في درجات البيان..

التالي السابق


الخدمات العلمية