الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن مظانه سنن أبي داود السجستاني - رحمه الله - روينا عنه أنه قال: "ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه".

وروينا عنه أيضا ما معناه: أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب. وقال: "ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض.

قلت: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود. وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق.

إذ حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ: أنه سمع محمد بن سعيد البادي بمصر يقول: "كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه". وقال ابن منده: "وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال". والله أعلم.

[ ص: 315 ]

التالي السابق


[ ص: 315 ] 34 - قوله: (ومن مظانه سنن أبي داود السجستاني - رحمه الله - روينا عنه أنه قال: "ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه". ثم قال: "وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".

قال ابن الصلاح: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا [ ص: 316 ] وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود. وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به) ... إلى آخر كلامه، وفيه أمور:

أحدها: قد اعترض الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد على المصنف في هذا، فقال: "ليس يلزم أن يستفاد من كون الحديث لم ينص عليه أبو داود بضعف ولا نص عليه غيره بصحة أن الحديث عند أبي داود حسن؛ إذ قد يكون عنده صحيحا وإن لم يكن عند غيره كذلك" حكاه الحافظ أبو الفتح اليعمري في شرح الترمذي عن ابن رشيد، ثم قال: "وهذا تعقب حسن" انتهى.

والجواب عن اعتراض ابن رشيد أن المصنف إنما ذكر ما لنا أن نعرف الحديث به عند أبي داود، والاحتياط أن لا نرتفع به إلى درجة الصحة، وإن جاز أن يبلغها عند أبي داود؛ لأن عبارة أبي داود "فهو صالح" أي للاحتجاج به، فإن كان أبو داود يرى الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف فالاحتياط بل الصواب ما قاله ابن الصلاح، وإن كان رأيه كالمتقدمين أن الحديث ينقسم إلى صحيح وضعيف فما سكت عنه فهو صحيح. والاحتياط أن يقال: "هو صالح" كما عبر أبو داود به. والله أعلم.

وهكذا رأيت الحافظ أبا عبد الله بن المواق يفعل في كتابه (بغية النقاد) [ ص: 317 ] يقول في الحديث الذي سكت عليه أبو داود: هذا حديث صالح.

الأمر الثاني: أن الحافظ أبا الفتح اليعمري تعقب ابن الصلاح هنا بأمر آخر، فقال في شرح الترمذي: "لم يرسم أبو داود شيئا بالحسن، وعمله بذلك شبيه بعمل مسلم الذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره، أنه اجتنب الضعيف الواهي، وأتى بالقسمين الأول والثاني، وحديث من مثل به من الرواة من القسمين الأول والثاني موجود في كتابه دون القسم [ ص: 318 ] الثالث.

قال: "فهلا ألزم الشيخ أبو عمرو مسلما من ذلك ما ألزم به أبا داود! فمعنى كلامهما واحد".

قال: وقول أبي داود: "وما يشبهه" يعني في الصحة "وما يقاربه" يعني فيها أيضا.

قال: "وهو نحو قول مسلم: إنه ليس كل الصحيح تجده عند مالك وشعبة وسفيان، فاحتاج أن ينزل إلى مثل حديث ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وزيد بن أبي زياد؛ لما يشتمل الكل من اسم العدالة والصدق وإن تفاوتوا في الحفظ والإتقان، ولا فرق بين الطريقين، غير أن مسلما شرط الصحيح، فتخرج [ ص: 319 ] من حديث الطبقة الثالثة، وأبا داود لم يشترطه فذكر ما يشتد وهنه عنده، والتزم البيان عنده".

قال: "وفي قول أبي داود أن بعضها أصح من بعض ما يشير إلى القدر المشترك بينهما من الصحة، وإن تفاوتت فيه؛ لما تقتضيه صيغة (أفعل) في الأكثر" انتهى كلام أبي الفتح.

والجواب عنه أن مسلما شرط الصحيح، بل الصحيح المجمع عليه في كتابه، فليس لنا أن نحكم على حديث في كتابه بأنه حسن عنده؛ لما عرف من قصور الحسن عن الصحيح.

وأبو داود قال: إن ما سكت عنه فهو صالح، والصالح يجوز أن يكون صحيحا، ويجوز أن يكون حسنا عند من يرى الحسن رتبة متوسطة بين الصحيح والضعيف. ولم ينقل لنا عن أبي داود هل يقول بذلك أو يرى ما ليس بضعيف صحيحا، فكان الأولى بل الصواب أن لا يرتفع بما سكت عنه إلى الصحة حتى نعلم أن رأيه هو الثاني، ويحتاج إلى نقل.

[ ص: 320 ] الأمر الثالث: أن بعض من اختصر كتاب ابن الصلاح تعقبه بتعقب آخر، وهو الحافظ عماد الدين بن كثير، فقال: "إن الروايات لسنن أبي داود كثيرة، ويوجد في بعضها ما ليس في الأخرى. ولأبي عبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل، كتاب مفيد، ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه. فقول ابن الصلاح: (ما سكت عنه فهو حسن) ما سكت عليه في سننه فقط أو مطلقا؟ هذا ما ينبغي التنبيه عليه والتيقظ له" انتهى كلامه، وهو كلام عجيب.

وكيف يحسن هذا الاستفسار بعد قول ابن الصلاح: إن من مظان الحسن سنن أبي داود؟! فكيف يحتمل حمل كلامه على الإطلاق في السنن وغيرها؟! وكذلك لفظ أبي داود صريح فيه، كأنه قال في رسالته: "ذكرت - في كتابي هذا - الصحيح ..." إلى آخر كلامه.

[ ص: 321 ] وأما قول ابن كثير: "من ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه" إن أراد به أنه ضعف أحاديث ورجالا في سؤالات للآجري وسكت عليها في السنن - فلا يلزم من ذكره لها في السؤالات بضعف أن يكون الضعف شديدا، فإنه يسكت في سننه على الضعف الذي ليس بشديد كما ذكره هو.

نعم، إن ذكر في السؤالات أحاديث أو رجالا بضعف شديد وسكت عليها في السنن فهو وارد عليه، ويحتاج حينئذ إلى الجواب. والله أعلم.




الخدمات العلمية