الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني من الدلائل : أحوال الأرض ، وفيه فصلان :

                                                                                                                                                                                                                                            الفصل الأول

                                                                                                                                                                                                                                            في بيان أحوال الأرض

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسبابا :

                                                                                                                                                                                                                                            السبب الأول : اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك ، وهي أقسام :

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الأول : المواضع العديمة العرض ، وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم ، تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة ، وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين ، وتكون حركة الفلك دولابية ، ولم [ ص: 172 ] يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره ، ولم يتصور كوكب أبدي الظهور ، ولا أبدي الخفاء ، بل يكون لكل نقطة سوى القطبين طلوع وغروب ، ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين ، وذلك عند بلوغ دائرة الأفق ، وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة ، وذلك عند بلوغها نقطتي الاعتدالين .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الثاني : المواضع التي لها عرض ، فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق ، وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين ، فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين ، الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك ، ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل ، وفي الجنوبية بالخلاف ، وتصير الحركة ههنا حمائلية ، ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره ، إلا ما كان في معدل النهار ، وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور ، والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء ، وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين ، بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الثالث : وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم ، وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق ، وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس ، ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الانقلاب الصيفي .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الرابع : وهو أن يزداد العرض على ذلك ، وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس ، ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور ، والآخر أبدي الخفاء .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الخامس : أن يصير العرض مثل تمام الميل ، وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي ، لكنهما يماسان الأفق ، وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق ، والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب ، وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق ، ثم يطلع من أول الجدي إلى أول السرطان دفعة ، ويغرب مقابله كذلك ، ثم تأخذ البروج الطالعة في الغروب ، والغاربة في الطلوع ، إلى أن تعود الحالة المتقدمة ، وينعدم الليل هناك في الانقلاب الصيفي ، والنهار الشتوي .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم السادس : أن يزداد العرض على ذلك ، فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي ، بحيث يكون المنقلب في وسطها ، ومدة قطع الشمس إياها يكون نهارا ، ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء ، ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلا ، ويعرض هناك لبعض البروج نكوس ، فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب ، كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال ، ونقطة الاعتدال الربيعي على أفق المشرق ، فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء ، والجوزاء قبل الثور ، والثور قبل الحمل ، ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض ، وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره ، فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم السابع : أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة ، فيكون هناك معدل النهار منطبقا على الأفق ، وتصير الحركة رحوية ، ويبطل الطلوع والغروب أصلا ، ويكون النصف الشمالي في فلك البروج أبدي الظهور ، والنصف الجنوبي أبدي الخفاء ، ويصير نصف السنة ليلا ونصفها نهارا .

                                                                                                                                                                                                                                            السبب الثاني لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة : اعلم أن خط الاستواء يقطع [ ص: 173 ] الأرض نصفين : شمالي وجنوبي ، فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على زوايا قائمة ، انقسمت كرة الأرض بهما أرباعا ، والذي وجد معمورا من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز ، ويقال والله أعلم : إن ثلاثة الأرباع ماء ، فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الاستواء يسمى : قبة الأرض ، ويحكى عن الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين ، فتسمى لأجلها قبة ، ثم وجد طول العمارة قريبا من نصف الدور ، وهو كالمجمع عليه ، واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب ، إلا أنهم اختلفوا في التعيين ، فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانوس ، وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى جزائر الخالدات ، زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر ، وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء ، فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الانتهاء أيضا ، ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الاستواء ، إلا أن بطليموس زعم أن وراء خط الاستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة ، فيكون عرض العمارة قريبا من اثنتين وثمانين درجة ، ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الاستواء ، وهي التي تسمى الأقاليم ، وابتداؤه من خط الاستواء ، وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الاستواء ، وآخر الإقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم ؛ لقلة ما وجدوا فيه من العمارة .

                                                                                                                                                                                                                                            السبب الثالث : لاختلاف أحوال الأرض ، كون بعضها بريا وبحريا ، وسهليا وجبليا ، وصخريا ورمليا وفي غور وعلى نجد ، ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافا شديدا ، وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [البقرة : 22] ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولا ، وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضا ، فنقول : طول الأرض إما أن يكون مستقيما أو مقعرا أو محدبا ، والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئا دفعة واحدة عند طلوع الشمس ، ولصار جميعه مظلما دفعة واحدة عند غيبتها ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفا واحدا بعينه ، واعتبرنا معه حالا مضبوطا من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه ، وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ، ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي ، والثاني أيضا باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي ؛ لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولا ثم في شرقه ثانيا ، ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب ، ثم هذا المحدب إما أن يكون كريا أو عدسيا ، والثاني باطل ؛ لأنا نجد التفاوت بين أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة ، حتى إن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار ، فثبت أنها كرة في الطول ، فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحا أو مقعرا أو محدبا ، والأول باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه ، ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك ، لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها ، والثاني أيضا باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك القعر ، ولانتقص ارتفاع القطب ، والتوالي كاذبة على ما قدمنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان ، وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 174 ] الحجة الثانية : ظل الأرض مستدير فوجب كون الأرض مستديرة .

                                                                                                                                                                                                                                            بيان الأول : أن انخساف القمر نفس ظل الأرض ؛ لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ، ثم نقول : وانخساف القمر مستدير ؛ لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديرا ، وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة ؛ لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها ، وبين القطعة المظلمة منها ، فإذا كان الظل مستديرا وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديرا ، فثبت أن الأرض مستديرة ، ثم إن الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض ؛ لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج ، مع أن شكل الخسوف أبدا على الاستدارة ، فإن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ، ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة ؛ لأن امتداد الظل كرة ، واحتج من قدح في كرية الأرض بأمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها منطبقا على مركز العالم ، ولو كان كذلك لكان الماء محيطا بها من كل الجوانب ؛ لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطا بكل الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                            أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقرا للحيوانات ، وأيضا لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها ، وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الثاني أن هذه التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة ، قالوا : لو اتخذنا كرة من خشب ، قطرها ذراع مثلا ، ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات ، وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ، ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية