الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
أفعل التفضيل

فيه قواعد :

- ( الأولى ) إذا أضيف إلى جنسه لم يكن بعضه ، كقولك : زيد أشجع الأسود ، وأجود السحب ، فيصير المعنى : زيد أشجع من الأسود ، وأجود من السحب ، وعليه قوله تعالى : ( خير الرازقين ) ( الجمعة : 11 ) و ( أحكم الحاكمين ) ( هود : 45 ) و ( أحسن الخالقين ) ( المؤمنون : 14 ) . أي خير من كل من تسمى برازق ، وأحكم من كل من تسمى بحاكم ، كذا قاله أبو القاسم السعدي .

قال الشيخ أثير الدين : الذي تقرر عن الشيوخ أن " أفعل " هذه لا تضاف إلا ويكون المضاف بعض المضاف إليه ، فلا يقال : هذا الفرس أسبق الحمير ، لأنه ليس بعض الحمير ، وعلى هذا بنى البصريون منع " زيد أفضل إخوته " ، وأجازوا " أفضل الإخوة " ، إلا إذا أخرجت عن معناها ، فإنه قد يجوز ذلك عن بعضهم .

- ( الثانية ) : إذا ذكر بعد " أفعل " جنسه ، أو واحد من آحاد جنسه ، وجب إضافته إليه ، كقولك : زيد أحسن الرجال ، وأحسن رجل قال تعالى : . . . . ، وإذا ذكر بعد ما هو من متعلقاته ، وجب نصبه على التمييز ، نحو : زيد أحسن وجها ، وأغزر علما .

[ ص: 149 ] وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى : ( أو أشد خشية ) ( النساء : 77 ) وقوله : ( أزكى طعاما ) ( الكهف : 19 ) فقد أضيف إلى غير جنسه وانتصب . وقد تأول العلماء هذا حتى رجعوا به إلى جعل " أشد " لغير الخشية ، فقال الزمخشري : معنى ( يخشون الناس كخشية الله ) ( النساء : 77 ) ، " أي مثل أهل خشية الله ، أو مثل قوم أشد خشية من أهل خشية الله . قال ابن الحاجب : وعلى مثل هذا يحمل ما خالف هذه القاعدة .

- ( الثالثة ) : الأصل فيه الأفضلية على ما أضيف إليه ، وأشكل على ذلك قوله تعالى : ( وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ) ( الزخرف : 48 ) لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها فيكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة .

وأجاب الزمخشري بأن الغرض وصفهن بالكبر من غير تفاوت فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتفاوت في الفضل التفاوت اليسير ، أن تختلف آراء الناس في تفضيلها ، وربما اختلف آراء الواحد فيها ، كقول الحماسي :


من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يهدى بها الساري



وأجاب ابن الحاجب بأن المراد الأعلى أكبر من أختها عندهم ، وقت حصولها لأن لمشاهدة الآية في النفس أثرا عظيما ليس للغائب عنها .

- ( الرابعة ) قالوا : لا ينبني من العاهات ، فلا يقال : ما أعور هذه الفرس ! وأما قوله تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) ( الإسراء : 72 ) ففيه وجهان :

[ ص: 150 ] - أحدهما أنه من عمى القلب الذي يتولد من الضلالة ، وهو ما يقبل الزيادة والنقص ، لا من عمى البصر الذي يحجب المرئيات عنه . وقد صرح ببيان هذا المعنى قوله تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ( الحج : 46 ) وعلى هذا فالأول اسم فاعل ، والثاني أفعل تفضيل من فقد البصيرة .

- والثاني أنه من عمى العين ، والمعنى من كان في هذه أعمى من الكفار ، فإنه يحشر أعمى ، فلا يكون " أفعل تفضيل " . ومنهم من حمل الأول على أنه عمى القلب ، والثاني على فقد البصيرة ، وإليه ذهب أبو عمرو ، فأمال الأول ، وترك الإمالة في الثاني ، لما كان اسما ، والاسم أبعد من الإمالة .

- الخامسة : يكثر حذف المفضول إذا دل عليه دليل ، وكان أفعل خبرا كقوله تعالى : ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ( البقرة : 61 ) . ( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) ( البقرة : 282 ) . ( والله أعلم بما وضعت ) ( آل عمران : 36 ) . ( وما تخفي صدورهم أكبر ) ( آل عمران : 36 ) . ( إنما عند الله هو خير لكم ) ( النحل : 95 ) . ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) ( الكهف : 46 ) . ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) ( مريم : 73 ) . ( فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ) ( مريم : 75 ) .

وقد يحذف المفضول وأفعل ليس بخبر ، كقوله تعالى : ( فإنه يعلم السر وأخفى ) ( طه : 7 ) .

- ( السادسة ) : قد يجيء مجردا من معنى التفضيل ، فيكون للتفضيل لا للأفضلية . ثم هو تارة يجيء مؤولا باسم الفاعل ، كقوله تعالى : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ) ( النجم : 32 ) . ومؤولا بصفة مشبهة كقوله تعالى : ( وهو أهون عليه ) ( الروم : 27 ) . فـ " أعلم " ههنا بمعنى " عالم بكم " ، إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك ، " وأهون عليه " بمعنى هين ، إذ لا تفاوت في نسبة المقدورات إلى قدرته تعالى .

[ ص: 151 ] وقوله تعالى : ( أفمن يلقى في النار خير ) ( فصلت : 40 ) . وقوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) ( الفرقان : 24 ) ثم المشهور في هذا التزام الإفراد والتذكير ، إذا كان ما هو له مجموعا لفظا ومعنى كقوله تعالى : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) ( الفرقان : 24 ) . أو لفظا لا معنى ، كقوله تعالى : ( نحن أعلم بما يستمعون به ) ( الإسراء : 47 ) و ( نحن أعلم بما يقولون ) ( طه : 104 ) .

وأما قوله تعالى : ( يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ) ( الحج : 13 ) فمعناه الضرر بعبادته أقرب من النفع بها . فإن قيل : كيف قال : ( أقرب من نفعه ) ( الحج : 13 ) ولا نفع من قبله ألبتة ؟

قيل : لما كان في قوله : ( لمن ضره أقرب من نفعه ) تبعيد لنفعه ، والعرب تقول لما لم يصح في اعتقادهم بكونه . " هذا بعيد " جاز الإخبار بـ " بعد " نفع الوثن ، والشاهد له قوله تعالى حكاية عنهم : ( أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) ( ق : 3 ) .

- ( السابعة ) " أفعل " في الكلام على ثلاثة أضرب :

1 - مضاف كقوله تعالى : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ( التين : 8 ) .

2 - ومعرف باللام نحو : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( الأعلى : 1 ) و ( ليخرجن الأعز منها الأذل ) ( المنافقون : 8 ) .

3 - وخال منهما ، ويلزم اتصاله بـ " من " التي لابتداء الغاية جارة للمفضل عليه ، كقوله تعالى : ( أنا أكثر منك مالا ) ( الكهف : 34 ) .

وقد يستغنى بتقديرها عن ذكرها كقوله تعالى : ( وأعز نفرا ) ( الكهف : 34 ) . ويكثر ذلك إذا كان أفعل التفضيل خبرا كقوله : ( والآخرة خير وأبقى ) ( الأعلى : 17 ) . وحيث أضيف إنما يضاف إلى جمع معرف ، نحو : " أحكم الحاكمين " ، ولا يجوز [ ص: 152 ] " زيد أفضل رجل " ، ولا " أفضل رجال " ، لأنه لا فائدة فيه ، لأن كل شخص لا بد أن يكون له جماعة مجهولة يفضلها ، وإنما الفائدة في أن تقول : " أفضل الرجال " .

فأما قوله تعالى : ( ثم رددناه أسفل سافلين ) ( التين : 5 ) فجوابه أنه غير مضاف إليه تقديرا ، بل المضاف إليه محذوف ، وقامت صفته مقامه ، وكأنه قال : " أسفل قوم سافلين " ، ولا خلاف فيه أنه يضاف إلى اسم الجمع معرفا ومنكرا ، نحو : أفضل الناس والقوم ، وأفضل ناس وأفضل قوم .

فإن قيل : لم أجازوا تنكير هذا ولم يجيزوا تكرر ذلك في الجمع ؟

قلت : لأن " أفضل القوم " ليس من ألفاظ الجموع ، بل من الألفاظ المفردة ، فخففوه بترك الألف واللام الثانية ، إذا كان " أفعل " بالألف واللام ، أو مضافا جاز تثنيته وجمعه قال تعالى : ( واتبعك الأرذلون ) ( الشعراء : 111 ) و ( بالأخسرين أعمالا ) ( الكهف : 103 ) .

وقال في المفرد : ( إذ انبعث أشقاها ) ( الشمس : 12 ) .

وقال في الجمع : ( أكابر مجرميها ) ( الأنعام : 123 ) و ( إلا الذين هم أراذلنا ) ( هود : 27 ) . وتقول في المؤنث " هذه الفضلى " قال تعالى : ( إنها لإحدى الكبر ) ( المدثر : 35 ) ، ( فأولئك لهم الدرجات العلا ) ( طه : 75 ) .

وحكم " فعلى " حكم " أفعل " لا يستعمل بغير " من " إلا مضافا أو معرفا بأل . وأما قوله : ( وأخر متشابهات ) ( آل عمران : 7 ) فقالوا : إنه على تقدير " من " أي وأخر منها متشابهات

التالي السابق


الخدمات العلمية