الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 48 - 49 ] ( باب صلاة الجمعة ) [ ص: 50 ] ( لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع ، أو في مصلى المصر ، ولا تجوز في القرى ) [ ص: 51 ] لقوله عليه الصلاة والسلام { لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع } والمصر الجامع : كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام [ ص: 52 ] ويقيم الحدود ، وهذا عند أبي يوسف رحمه الله ، وعنه أنهم إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ، والأول اختيار الكرخي وهو الظاهر ، والثاني اختيار الثلجي ، والحكم غير مقصور على المصلي بل تجوز في جميع أفنية المصر ; لأنها بمنزلته في حوائج أهله .

[ ص: 49 ]

التالي السابق


[ ص: 49 ] ( باب صلاة الجمعة ) مناسبته مع ما قبله تنصيف الصلاة لعارض ، إلا أن التنصيف هنا في خاص من الصلاة ، وهو الظهر ، وفيما قبله في كل رباعية ، وتقديم العام هو الوجه ، ولسنا نعني أن الجمعة تنصيف الظهر بعينه بل هي فرض ابتداء نسبته النصف منها . واعلم أولا أن الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع ، يكفر جاحدها ، قال تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } رتب الأمر بالسعي للذكر على النداء للصلاة ، فالظاهر أن المراد بالذكر الصلاة ، ويجوز كون المراد به الخطبة ، وعلى كل تقدير يفيد افتراض الجمعة ، فالأول ظاهر والثاني كذلك ; لأن افتراض السعي إلى الشرط وهو المقصود لغيره فرع افتراض ذلك الغير .

أولا ترى أن من لم يجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الخطبة بالإجماع ، والمذكور في التفسير أن المراد الخطبة والصلاة وهو الأحق لصدقه عليهما معا ، وقال صلى الله عليه وسلم { الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوك ، أو امرأة أو صبي ، أو مريض } رواه أبو داود عن طارق بن شهاب ، وقال طارق : رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه انتهى . وليس هذا قدحا في صحبته ولا في الحديث ، فإن غايته أن يكون مرسل صحابي وهو حجة بل بيان للواقع .

قال النووي : الحديث على شرط الشيخين . وأخرج البيهقي من طريق البخاري عن تميم الداري رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم قال { الجمعة واجبة إلا على صبي أو مملوك أو مسافر } ورواه الطبراني عن الحكم بن عمرويه ، وزاد فيه { المرأة والمريض } ، وروى مسلم عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره { لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين } ، وعن أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه } . رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وحسنه ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما .

وقال صلى الله عليه وسلم { من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه } رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم وصححه . وقال صلى الله عليه وسلم { من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين } رواه الطبراني في الكبير من حديث جابر الجعفي ، لكن له شواهد فلا يضره تضعيف جابر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره } .

وهذا [ ص: 50 ] باب يحتمل جزءا وإجماع المسلمين على ذلك ، وإنما أكثرنا فيه نوعا من الإكثار لما نسمع عن بعض الجهلة أنهم ينسبون إلى مذهب الحنفية عدم افتراضها ، ومنشأ غلطهم ما سيأتي من قول القدوري : ومن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ، ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته ، وإنما أراد حرم عليه وصحت الظهر ، فالحرمة لترك الفرض وصحة الظهر لما سنذكر .

وقد صرح أصحابنا بأنها فرض آكد من الظهر وبإكفار جاحدها . ولوجوبها شرائط في المصلي : الحرية ، والذكورة والإقامة ، والصحة ، وسلامة الرجلين والعينين . وقالا : إذا وجد الأعمى قائدا لزمته . أجيب بأنه غير قادر بنفسه فلا تعتبر قدرة غيره كالزمن إذا وجد من يحمله .

وشرائط في غيره : المصر ، والجماعة ، والخطبة ، والسلطان ، والوقت ، والإذن العام ، حتى لو أن واليا أغلق باب بلد وجمع بحشمه وخدمه ، ومنع الناس من الدخول لم تجز أخذا من إشارة قوله تعالى { نودي للصلاة } فإنه أي تشهير ( قوله أو في مصلى المصر ) أعني فناءه فإن المسجد الداخل فيه انتظمه اسم المصر ، وفناؤه هو المكان المعد لمصالح المصر متصل به أو منفصل بغلوة ، كذا قدره محمد في النوادر ، وقيل بميل ، وقيل بميلين ، وقيل بثلاثة أميال ، وقيل إنما تجوز في الفناء إذا لم يكن بينه وبين المصر مزرعة ، إلا أنه لما أعطى اشتراط المصلى .

قال المصنف : [ ص: 51 ] والحكم غير مقصور على المصلى بل تجوز في جميع أفنية المصر : أي وإن لم يكن في مصلى فيها ( وقوله لقوله صلى الله عليه وسلم { لا جمعة } إلخ ) رفعه المصنف ، وإنما رواه ابن أبي شيبة موقوفا على علي رضي الله عنه : { لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو في مدينة عظيمة } صححه ابن حزم ، ورواه عبد الرزاق من حديث عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال : لا تشريق ولا جمعة إلا في مصر جامع وكفى بقول علي رضي الله عنهما قدوة .

وأما ما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواثا قرية بالبحرين } . فلا ينافي المصرية تسمية الصدر الأول اسم القرية ، إذ القرية تقال عليه في عرفهم وهو لغة القرآن ، قال الله تعالى { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي مكة والطائف ، ولا شك أن مكة مصر .

وفي الصحاح أن جواثا حصن بالبحرين فهي مصر ، إذ لا يخلو الحصن عن حاكم عليهم وعالم ، ولذا قال في المبسوط : إنها مدينة في البحرين ، وكيف والحصن يكون بأي سور ولا يخلو ما كان كذلك عما قلنا عادة . وما روي عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه كعب بن مالك أنه قال : أول من جمع بنا في حرة بني بياضة أسعد بن زرارة ، وكان كعب إذا سمع النداء ترحم على أسعد بذلك قال : قلت كم كنتم ؟ قال : أربعون ، فكان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ذكره البيهقي وغيره من أهل العلم فلا يلزم حجة ; لأنه كان قبل أن تفرض الجمعة ، وبغير علمه صلى الله عليه وسلم أيضا على ما روي في القصة أنهم قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصار يوم ، فلنجعل يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلي ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى مسجد فصلى بهم وذكرهم وسموه يوم الجمعة ، ثم أنزل الله فيه بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فتذكر عند هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم التراويح لما اجتمعوا إليه في الليلة الثالثة مخافة أن يؤمر به ، ولو سلم فتلك الحرة من أفنية المصر وللفناء حكم المصر فسلم حديث علي عن المعارض ، ثم يجب أن يحمل على كونه سماعا ; لأن دليل الافتراض من كتاب الله تعالى يفيده على العموم في الأمكنة فإقدامه على نفيها في بعض الأماكن لا يكون إلا عن سماع ; لأنه خلاف للقياس المستمر في مثله ، وفي الصلوات الباقيات أيضا .

والقاطع للشغب أن قوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } ليس على إطلاقه اتفاقا بين الأمة إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعا ولا في كل قرية عنده ، بل بشرط أن لا يظعن أهلها عنها صيفا ولا شتاء ، فكان خصوص المكان مرادا فيها إجماعا ، فقدر القرية الخاصة وقدرنا المصر وهو أولى لحديث علي رضي الله عنه ، وهو لو عورض بفعل غيره كان علي رضي الله عنه مقدما عليه ، فكيف ولم يتحقق معارضة ما ذكرنا إياه ، ولهذا لم ينقل عن الصحابة أنهم حين فتحوا البلاد اشتغلوا بنصب المنابر والجمع إلا في الأمصار دون القرى ، ولو كان لنقل ولو آحادا ، ولو مصر الإمام موضعا وأمرهم بالإقامة فيه جاز ، ولو منع أهل مصر أن يجمعوا لم يجمعوا .

وقال الفقيه أبو جعفر : إذا نهى مجتهدا لسبب من الأسباب أراد به أن يخرج ذلك الموضع عن أن يكون مصرا جاز ، أما متعنتا وإضرارا فلهم أن يجمعوا على من يصلي ، [ ص: 52 ] ولو مصر مصرا ثم نفر الناس عنه لخوف ونحوه ثم عادوا لا يجمعون إلا بإذن ، ولو دخل القروي المصر يوم الجمعة ونوى أن يمكثه لزمته ، وإن نوى الخروج منه قبل وقتها لا تلزمه .

قال الفقيه : إن نوى أن يخرج من يومه ولو بعده لا تلزمه ( قوله ويقيم الحدود ) احترازا عن المحكم ، والمرأة إذا كانت قاضية فإنه يجوز قضاؤها إلا في الحدود والقصاص ، واكتفى بذكر الحدود عن القصاص ; لأن ملك إقامتها في ملكه ( قوله : وهو الظاهر ) أي من المذهب . وقال أبو حنيفة : المصر بلدة فيها سكك وأسواق وبها رساتيق ووال ينصف المظلوم من الظالم وعالم يرجع إليه في الحوادث ، وهذا أخص مما اختاره المصنف ، قيل وهو الأصح ، وإذا كان القاضي يفتي [ ص: 53 ] ويقيم الحدود أغنى من التعدد : وقد وقع شك في بعض قرى مصر مما ليس فيها وال وقاض نازلان بها بل لها قاض يسمى قاضي الناحية وهو قاض يولى الكورة بأصلها فيأتي القرية أحيانا فيفصل ما اجتمع فيها من التعلقات وينصرف ووال كذلك ، هل هو مصر نظرا إلى أن لها واليا وقاضيا أو لا نظرا إلى عدمها منهما ؟ . والذي يظهر اعتبار كونهما مقيمين بها وإلا لم تكن قرية أصلا ، إذ كل قرية مشمولة بحكم . وقد يفرق بالفرق بين قرية لا يأتيها حاكم يفصل بها الخصومات حتى يحتاجون إلى دخول مصر في كل حادثة لفصلها ، وبين ما يأتيها فيفصل فيها ، وإذا اشتبه على الإنسان ذلك ينبغي أن يصلي أربعا بعد الجمعة ينوي بها آخر فرض أدركت وقته ولم أؤده بعد ، فإن لم تصح الجمعة وقعت ظهره وإن صحت كانت نفلا ، وهل تنوب عن سنة الجمعة ؟ قدمنا الكلام في باب شروط الصلاة فارجع إليه .

وكذا إذا تعددت الجمعة وشك في أن جمعته سابقة أو لا ينبغي أن يصلي ما قلنا . وأصله أن عند أبي حنيفة لا يجوز تعددها في مصر واحد ، وكذا روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه لا يجوز في مسجدين في مصر إلا أن يكون بينهما نهر كبير حتى يكون كمصرين ، وكان يأمر بقطع الجسر ببغداد لذلك ، فإن لم يكن فالجمعة لمن سبق ، فإن صلوا معا أو لم تدر السابقة فسدتا . وعنه أنه يجوز في موضعين إذا كان المصر عظيما لا في ثلاثة . وعن محمد يجوز تعددها مطلقا .

ورواه عن أبي حنيفة ولهذا قال السرخسي : الصحيح من مذهب أبي حنيفة جواز إقامتها في مصر واحد من مسجدين فأكثر ، وبه نأخذ لإطلاق : لا جمعة في مصر ، شرط المصر ، فإذا تحقق تحقق في حق كل منها . وجه رواية المنع أنها سميت جمعة لاستدعائها الجماعات فهي جامعة لها ، والأصح الأول خصوصا إذا كان مصر كبير ، فإن في إلزام اتحاد الموضع حرجا بينا لاستدعائه تطويل المسافة على الأكثر ، مع أن الوجه المذكور مما يتسلط عليه المنع ، وما قلنا من الكلام في وقوعها عن السنة إنما هو إذا زال الاشتباه بعد الأربع لتحقق وقوعها [ ص: 54 ] نفلا ، أما إذا دام الاشتباه قائما فلا يجزم بكونها نفلا ; ليقع النظر في أنها سنة أو لا ، فينبغي أن يصلي بعدها السنة ; لأن الظاهر وقوعها ظهرا ; لأنه ما لم يتحقق وجود الشرط لم يحكم بوجود الجمعة فلم يحكم بسقوط الفرض ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ومن كان من مكان من توابع المصر فحكمه حكم أهل المصر في وجوب الجمعة عليه بأن يأتي لمصر فليصلها فيه . واختلفوا فيه ; فعن أبي يوسف إن كان الموضع يسمع النداء فيه من المصر فهو من توابعه وإلا فلا ، وعنه كل قرية متصلة بربض المصر ، وغير المتصلة لا ، وعنه أنها تجب في ثلاثة فراسخ ، وقال بعضهم قدر ميل ، وقيل قدر ميلين ، وقيل ستة أميال . وعن مالك ستة ، وقيل إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه الجمعة وإلا فلا . قال في البدائع : وهذا حسن .




الخدمات العلمية