الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع السابع من الدلائل : تصريف الرياح ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : وجه الاستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف ، وهو الرقة واللطافة ، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات ، وذلك من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات ، وقيل فيه : إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء ، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضا شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل ؛ لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء ، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبدا ، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء ، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء ، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين ، والأدوية النادرة قليلة ، فلا جرم عزت هذه الأشياء ، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جدا ، فلا جرم كانت في نهاية العزة ، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد ، كان وجدانه أسهل ، وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب ، وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات ، فنرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء ، وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال :


                                                                                                                                                                                                                                            سبحان من خص القليل بعزه والناس مستغنون عن أجناسه     وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
                                                                                                                                                                                                                                            نفس لمحتاج إلى أنفاسه



                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك ، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله ، فلو أراد كل من في العالم أن يقلب الريح من الشمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكنا أن يحركه لتعذر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الواحدي : ( وتصريف الرياح ) أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الرياح جمع الريح ، قال أبو علي : الريح اسم على فعل ، والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء ، فإنه في الجمع القليل أرواح ؛ وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ، ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الإعلال ، كالواو في قوم وقول ، وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو [ ص: 182 ] ديمة وديم وحيلة وحيل ، قال ابن الأنباري : إنما سميت الريح ريحا ؛ لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة ، وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم ، فهي مأخوذة من الروح ، والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قالوا : الرياح أربع ، الشمال والجنوب والصبا والدبور ، فالشمال من نقطة الشمال ، والجنوب من نقطة الجنوب ، والصبا مشرقية ، والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولا ؛ لأنها استقبلت الدبور ، وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ( الرياح ) على الجمع في عشرة مواضع : البقرة ، والأعراف ، والحجر ، والكهف ، والفرقان والنمل والروم في موضعين ، والجاثية وفاطر ، وقرأ نافع في اثني عشر موضعا هذه العشرة وفي إبراهيم : ( كرماد اشتدت به الرياح ) [ إبراهيم : 18 ] وفي حم عسق : ( إن يشأ يسكن الريح ) [ الشورى : 33 ] وقرأ ابن كثير : ( الرياح ) في خمسة مواضع ؛ البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين ، وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع : في الحجر والفرقان والروم الأول منها .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن كل واحد من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية ، وأما من وحد فإنه يريد به الجنس ، كقولهم : أهلك الناس الدينار والدرهم ، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع ، فأما ما روي في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال : : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى ، قال تعالى : ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) [ الروم : 46 ] وإنما يبشر بالرحمة ، وقال في موضع الإفراد : ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) [ الذاريات : 41 ] وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له ، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى : ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله : ( وما أدراك ما القارعة ) [ القارعة : 3 ] ( وما أدراك ما هيه ) [القارعة : 6] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية