الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك إذا كان قد تبين أن الشيئين لا يكون كل منهما للآخر علة فاعلية، فكذلك ألا يكون كل منهما للآخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء الواحد لا يكون علة لنفسه، ولا معلولا لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن يكون موجودا معدوما إذا قدر فاعلا، وإذا قدر مفعولا، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول نفسه لزم تأخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متأخرا عن وجود نفسه ومتقدما على وجود نفسه، فيلزم أيضا اجتماع النقيضين مرتين.

وأيضا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصورا مقصودا له، ويكون تصوره وقصده له بعد تصوره وقصده، لأنه يتصور أولا ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضا في التصور والقصد مرتين، وقد تقدم هذا.

وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه معلولا له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضا أن يكون جزء علة أو شرط علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات العلة، فيلزم ما تقدم من الدور [ ص: 180 ] الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كل منهما شرطا للآخر، وتكون العلة أمرا غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطا بالآخر، وهو الدور المعي. ولا يجوز أن يكون شرطا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي.

فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل كل واحد لما يفعله مشروطا بالآخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها الواحد في الآدميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد المتعاونين مستفيدا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا كان كل منهما محتاجا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولا لذلك، فإنه إذا قدر أن أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالآخر على حصولها، فلو كان ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرا عليها، فلا يعين، ولكان الأول قادرا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يعين به أحدهما الآخر من الأسباب، مثل الآلات ونحوها، فذاك ليس من هذا.

وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع والتعاون، ليس أحدهما مستقلا بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو في بعضه.

وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات. [ ص: 181 ]

وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه الآخر ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها، ويمتنع كون كل من الشيئين معلولا للآخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين المتناكحين.

وإن فرض أن كلا منهما يقصد إنالته الآخر لذته، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض، إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيله لذاك من اللذة وسيلة إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات والمشاركات التي بني عليها صلاح العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركين مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو بوجوده، ولكن يقصد ما هو للآخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجة العلل إلى المعلول، لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين.

التالي السابق


الخدمات العلمية