الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 116 ] وقالوا فيمن له مائتا شاة وشاة : أنه يؤدي منها كما يؤدي من له ثلثمائة شاة وتسع وتسعون شاة ؟ فإنما نقف في النهي والأمر عندما صح به نص فقط وهم يقولون في عبد يساوي ألف دينار ليتيم ليس له غيره سرق دينارا ; أنه تقطع يده فتتلف قيمة عظيمة في قيمة يسيرة ويجاح اليتيم الفقير فيما لا ضرر فيه على الغني ؟ وقال أبو حنيفة وأصحابه - إلا رواية خاملة عن أبي يوسف - : إن من لزمته بنت مخاض فلم تكن عنده فإنه يؤدي قيمتها ، ولا يؤدي ابن لبون ذكرا ؟ وقال مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان : يؤدي ابن لبون ذكرا ؟ وهذا هو الحق ، وقول أبي حنيفة خلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن عجائب الدنيا قولهم : إن { أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ ابن لبون مكان ابنة المخاض } إنما أراد بالقيمة ; فيا لسهولة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا علانية فريب الفضيحة على هؤلاء القوم وما فهم قط من يدري العربية أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ففيها ابنة مخاض .

                                                                                                                                                                                          فإن لم تكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس شيء " يمكن أن يريد به بالقيمة وهذا أمر مخجل جدا ، وبعد عن الحياء والدين وأما خلافهم الصحابة في ذلك - : فإن حمام بن أحمد ثنا قال ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن عاصم ، وموسى بن عقبة كلاهما عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر قال : في الإبل في خمس شاة ، وفي عشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين ابنة مخاض ; فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ، وقد ذكرناه آنفا عن علي ؟ [ ص: 117 ] فخالفوا أبا بكر ، وعمر ، وعليا ، وأنس بن مالك ، وابن عمر .

                                                                                                                                                                                          وكل من بحضرتهم من الصحابة رضي الله عنهم - : بآرائهم الفاسدة ، وخالفوا عمر بن عبد العزيز أيضا .

                                                                                                                                                                                          وبقولنا في هذا يقول : سفيان الثوري ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث ، وأحمد بن حنبل ، وأبو سليمان ، وجمهور الناس ، إلا أبا حنيفة ومن قلد دينه وما نعلم لهم في هذا سلفا أصلا واختلفوا أيضا فيما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعويض سن من سن دونها أو فوقها عند عدم السن الواجبة ورد عشرين درهما أو شاتين في ذلك ؟ فقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يجوز شيء من ذلك إلا بالقيمة ، وأجاز إعطاء القيمة من العروض وغيرها بدل الزكاة الواجبة ، وإن كان المأمور بأخذه فيها ممكنا ؟ وقال مالك : لا يعطي إلا ما عليه .

                                                                                                                                                                                          ولم يجز إعطاء سن مكان سن برد شاتين أو عشرين درهما ؟ وقال الشافعي بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك نصا ، إلا أنه قال : إن عدمت السن الواجبة ، والتي تحتها ، والتي فوقها ، ووجدت الدرجة الثالثة ; فإنه يعطيها ويرد إليه الساعي أربعين درهما ، أو أربع شياه ، وكذلك إن لم يجد إلا التي تحتها بدرجة فإنه يعطيها ويعطي معها أربعين درهما أو أربع شياه ; فإذا كانت عليه بنت مخاض ولم يجد إلا جذعة فإنه يعطيها ويرد عليه الساعي ستين درهما أو ست شياه ; فإن كانت عليه جذعة فلم يجد إلا بنت مخاض أعطاها وأعطى معها ستين درهما أو ست شياه ؟ وأجازوا كلهم إعطاء أفضل مما لزمه من الأسنان ، إذا تطوع بذلك وروينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال : إذا أخذ المصدق سنا فوق سن رد عشرة دراهم أو شاتين ؟ وروي أيضا عن عمر كما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى ؟ [ ص: 118 ] قال أبو محمد : أما قول علي ، وعمر ، فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كان يلزم الحنفيين - القائلين في مثل هذا إذا وافق أهواءهم : مثل هذا لا يقال بالرأي - : أن يقولوا به ؟ وأما قول الشافعي : فإنه قاس على حكم النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه ، والقياس باطل ، وكان يلزمه على قياسه هذا - إذا رأى في العينين الدية ، وفي السمع الدية ، وفي اليدين الدية - : أن يكون عنده في إتلاف النفس ديات كل ما في الجسم من الأعضاء ، لأنها بطلت ببطلان النفس ، وكان يلزمه إذ رأى في السهو سجدتين - أن يرى في سهوين في الصلاة أربع سجدات وفي ثلاثة أسهاء ست سجدات ؟ وأقرب من هذا أن يقول ، إذا عدم التبيع وجد المسنة أن يقدر في ذلك تقديرا ; ولكنه لا يقول بهذا ، فقد ناقض قياسه وأما قول أبي حنيفة ، ومالك ، فخلاف مجرد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وللصحابة ، وما نعلم لهم حجة ، إلا أنهم قالوا : هذا بيع ما لم يقبض ؟ قال أبو محمد : وهذا كذب ممن قاله وخطأ لوجوه - : أحدها : أنه ليس بيعا أصلا ولكنه حكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعويض سن ، معها شاتان أو عشرون درهما من سن أخرى ; كما عوض الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إطعام ستين مسكينا من رقبة تعتق في الظهار ، وكفارة الواطئ عمدا في نهار رمضان فليقولوا هاهنا : إن هذا بيع للرقبة قبل قبضها والثاني : أنهم أجازوا بيع ما لم يقبض على الحقيقة حيث لا يحل وهو تجويز أبي حنيفة أخذ القيمة عن الزكاة الواجبة ، فلم ينكر أصحابه الباطل على أنفسهم وأنكروا الحق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ذلك هو الضلال المبين والثالث : أن النهي عن بيع ما لم يقبض لم يصح قط إلا في الطعام ، لا فيما سواه ؟ وهذا مما خالفوا فيه السنن والصحابة رضي الله عنهم ؟ [ ص: 119 ] فأما الصحابة ; فقد ذكرناه عن أبي بكر الصديق .

                                                                                                                                                                                          وصح أيضا عن علي - كما ذكرنا - تعويض ، وروي أيضا عن عمر كما حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال لي عمرو بن شعيب قال عمر بن الخطاب : فإن لم توجد السن التي دونها أخذت التي فوقها ، ورد صاحب الماشية شاتين أو عشر دراهم .

                                                                                                                                                                                          ولا يعرف لمن ذكرنا من الصحابة مخالف ; وهم يشنعون بأقل من هذا إذا وافقهم وقولنا في هذا هو قول إبراهيم النخعي كما حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر وسفيان الثوري كليهما عن منصور عن إبراهيم النخعي قال : إذا وجد المصدق سنا دون سن أو فوق سن كان فضل ما بينهما عشرين درهما أو شاتين .

                                                                                                                                                                                          قال سفيان : وليس هذا إلا في الإبل - : وحدثنا محمد بن سعيد بن ثابت قال ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : إن أخذ المصدق سنا فوق سن رد شاتين أو عشرين درهما ; وإن أخذ سنا دون سن أخذ شاتين أو عشرين درهما .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما إجازتهم القيمة أو أخذ سن أفضل مما عليه فإنهم احتجوا في ذلك بخبر رويناه من طريق طاوس : أن معاذا قال لأهل اليمن : ائتوني بعرض آخذه منكم مكان الذرة والشعير ; فإنه أهون عليكم وخير لأهل المدينة .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا لا تقوم به حجة لوجوه - : [ ص: 120 ] أولها : أنه مرسل ، لأن طاوسا لم يدرك معاذا ولا ولد إلا بعد موت معاذ ؟ والثاني : أنه لو صح لما كانت فيه حجة ; لأنه ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام .

                                                                                                                                                                                          والثالث : أنه ليس فيه أنه قال ذلك في الزكاة ; فالكذب لا يجوز ، وقد يمكن - لو صح - أن يكون قاله لأهل الجزية ، وكان يأخذ منهم : الذرة ، والشعير ، والعرض : مكان الجزية .

                                                                                                                                                                                          والرابع : أن الدليل على بطلان هذا الخبر ما فيه من قول معاذ " خير لأهل المدينة " وحاشا لله أن يقول معاذ هذا ، فيجعل ما لم يوجبه الله تعالى خيرا مما أوجبه وذكروا أيضا : ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريح : أخبرت عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري : أن عمر كتب إلى بعض عماله : أن لا يأخذ من رجل لم يجد في إبله السن التي عليه إلا تلك السن من شروى إبله ، أو قيمة عدل ؟ قال أبو محمد : هذا في غاية السقوط لوجوه - : أحدها : أنه منقطع ، لأن ابن جريح لم يسم من بينه وبين عبد الله بن عبد الرحمن . [ ص: 121 ] والثاني : أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري مجهول لا يدرى من هو ؟ والثالث : أنه لو صح لما كانت فيه حجة ; لأنه ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجة فيما جاء عمن دونه ، وقد أتيناهم عن عمر بمثل هذا في أخذ الشاتين أو العشرة دراهم ، فليقولوا به إن كان قول عمر حجة ; وإلا فالتحكم لا يجوز ؟ والرابع : أنه قد يحتمل أن يكون قول عمر - لو صح عنه - " أو قيمة عدل " هو ما بينه في مكان آخر من تعويض الشاتين أو الدراهم ، فيحمل قوله على الموافقة لا على التضاد وذكروا حديثا منقطعا من طريق أيوب السختياني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { خذ الناب ، والشارف والعواري } . قال علي : وهذا لا حجة فيه لوجهين - : أحدهما : أنه مرسل ، ولا حجة في مرسل ؟ والثاني : أن في آخره " ولا أعلمه إلا كانت الفرائض بعد " فلو صح لكان منسوخا [ ص: 122 ] بنقل رواية فيه وذكروا ما رويناه من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عمارة بن عمرو بن حزم عن أبي بن كعب قال : { بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ، فمررت برجل فجمع لي ماله ، فقلت له : أد ابنة مخاض ، فإنها صدقتك ، قال : ذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر ، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة ، فخذها ، فقلت : ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منك ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك وقال : عرضت على مصدقك ناقة فتية عظيمة يأخذها ، فأبى علي ، وها هي ذه ، قد جئتك بها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذي عليك ، فإن تطوعت بخير أجرك الله وقبلناه منك ، وأمر عليه السلام بقبضها ، ودعا له بالبركة } . قال أبو محمد : ولا حجة فيه لوجوه - : أولها : أنه لا يصح ; لأن يحيى بن عبد الله مجهول ، وعمارة بن عمرو بن حزم غير معروف ; وإنما المعروف عمارة بن حزم أخو عمرو رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه لو صح لكان حجة عليهم ، لأن فيه أن أبي بن كعب لم يستجز أخذ ناقة فتية عظيمة مكان ابنة مخاض ، ورأى ذلك خلافا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير ما يراه هؤلاء من التعقب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بآرائهم ونظرهم ، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلم ينكره عليه ; فصح أنه الحق ، وإنما كان يكون فيه أخذ ناقة عظيمة مكان ابنة مخاض [ ص: 123 ] فقط ، وأما إجازة القيمة فلا أصلا .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بخبرين - : أحدهما : رويناه من طريق الحسن .

                                                                                                                                                                                          والآخر : من طريق عطاء ، كلاهما { عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للمصدق أعلمه الذي عليه من الحق ; فإن تطوع بشيء فاقبله منه } . وهذان مرسلان ، ثم لو صحا لم يكن فيهما حجة ; لأنه ليس فيه نص بأخذ غير الواجب ولا يأخذ قيمة ، ونحن لا ننكر أن يعطي أفضل ما عنده من السن الواجبة عليه ؟ واحتجوا بخبر رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الملك العرزمي عن عطاء بن أبي رباح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عليا ساعيا قالوا : لا نخرج لله إلا خير أموالنا ، فقال : ما أنا بعادي عليكم السنة . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ارجع إليهم فبين لهم ما عليهم في أموالهم ، فمن طابت نفسه بعد ذلك بفضل فخذه منه ؟ } قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه لوجهين - : أحدهما : أنه لا يصح لأنه مرسل ، ثم إن راويه عبد الملك العرزمي ، وهو متروك ثم إن فيه أن عليا بعث ساعيا وهذا باطل ، ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحدا من بني هاشم ساعيا ، وقد طلب ذلك الفضل بن عباس فمنعه ولو صح لما كان لهم فيه حجة أصلا ; لأن فيه أنهم أرادوا إعطاء أفضل أموالهم [ ص: 124 ] مختارين ، وهذا لا لمنعه إذا طابت نفس المزكي بإعطاء أكرم شاة عنده وأفضل ما عنده من تلك السن الواجبة عليه ; وليس فيه إعطاء سن مكان غيرها أصلا ، ولا دليل على قيمة ألبتة ؟ واحتجوا بحديث وائل بن حجر في { الذي أعطى في صدقة ماله فصيلا مخلولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بارك الله له ، ولا في إبله فبلغ ذلك الرجل ، فجاء بناقة فذكر من جمالها وحسنها ، وقال : أتوب إلى الله وإلى نبيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك فيه وفي إبله } .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو محمد : هذا خبر صحيح ، ولا حجة لهم فيه ; لأن الفصيل لا يجزئ في شيء من الصدقة بلا شك ، وناقة حسناء جميلة قد تكون جذعة وقد تكون حقة ; فأعطى ما عليه بأحسن ما قدر ; وليس فيه نص ولا دليل على إعطاء غير السن الواجبة عليه ولا على القيمة أصلا ؟ واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع قال { استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءته إبل من إبل الصدقة ، فأمرني أن أقضي الرجل بكره ؟ فقلت : لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا خبر صحيح ، ولا حجة لهم فيه ; لأنه ليس فيه أن ذلك الجمل أخذ في زكاة واجبة بعينه ، وقد يمكن أن يبتاعه المصدق ببعض ما أخذ في الصدقة ، فهذا غير ممتنع . [ ص: 125 ] وقد جاء في هذا أثر يحتجون بدونه ، وأما نحن فلسنا نورده محتجين به ، لكن تذكيرا لهم ؟ وهو خبر رويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان عن مجالد عن الصنابح الأحمسي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر ناقة في إبل الصدقة ، فقال ما هذه ؟ فقال صاحب الصدقة : إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل ; فقال : فنعم إذن } .

                                                                                                                                                                                          وقد يمكن أن تكون تلك الإبل من صدقة تطوع ، لأنه ليس في الحديث أنهما الصدقة الواجبة ، فلما أمكن كل ذلك - ونحن على يقين من أنه ليس في الصدقة جمل رباع أصلا - لم يحل ترك اليقين للظنون ، وقد تكلمنا في معنى هذا الخبر في كتاب " الإيصال " ; وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن ألبتة أن يستسلف البكر لنفسه ثم يقضيه من إبل الصدقة ، والصدقة حرام عليه بلا شك ولا خلاف ، صح أنه عليه السلام قال : { الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } فنحن على يقين من أنه إنما استسلفه لغيره ، لا يمكن غير ذلك ، فصار الذي أخذ البكر من الغارمين ، لأن السلف في ذمته ، وهو أخذه ، فإذ هو من الغارمين فقد صار حظه في الصدقة ; فقضي عنه منها ، لا يجوز غير ذلك .

                                                                                                                                                                                          وكذلك أيضا لا نشك أن الذي كان يستقرض منه البكر كان من بعض أصناف الصدقة ، ولولا ذلك ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق أهل الصدقة فضلا على حقه قال أبو محمد : وإنما في هذا الخبر دليل على المنع من تقديم الصدقة قبل وقتها [ ص: 126 ] لأنه لو كان ذلك جائزا لما استقرض عليه السلام على الصدقة وانتظر حتى يحين وقتها ; بل كان يستعجل صدقة من بعض أصحابه ; فلما لم يفعل ذلك عليه السلام صح أنه لا يجزئ أداء صدقة قبل وقتها - وبالله تعالى نتأيد فبطل كل ما موهوا به ، وصح أن كل ما احتجوا به ليس فيه إجازة إعطاء أكثر من الواجب في الزكاة ولا غير الصفة المحدودة فيها .

                                                                                                                                                                                          وأما القيمة فلا دليل لهم على جوازها أصلا ، بل البرهان ثابت بتحريم أخذها ، لأنها غير ما أمر الله تعالى به ، وتعد لحدود الله ، وقد قال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه } .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن كان نظرا لأهل الصدقة فما يمنع منه ؟ قلنا : النظر كله لأهل الصدقة أن لا يعطوا ما حرمه الله تعالى عليهم ، إذ يقول تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

                                                                                                                                                                                          فصح أنه لا يحل من مال أحد إلا ما أباحه الله تعالى منه ، أو أوجبه فيه فقط ، وما أباح تعالى قط أخذ قيمة عن زكاة افترضها بعينها وصفتها وما ندري في أي نظر معهود بيننا وجدوا أن تؤخذ الزكاة من صاحب خمس من الإبل لا تقوم به ، وعند أبي حنيفة ممن لا يملك إلا وردة واحدة أخرجتها قطعة أرض له : ولا تؤخذ من صاحب جواهر ورقيق ودور بقيمة مائة ألف ولا من صاحب تسع وعشرين بقرة ، وتسع وثلاثين شاة ، وخمس أواق غير درهم من الفضة فهل في هذا كله إلا اتباع ما أمر الله تعالى فقط ؟ وقد جاء قولنا عن السلف ، كما روينا [ من طريق ] سويد بن غفلة قال " سرت - [ ص: 127 ] أو قال : أخبرني من سار مع مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمد رجل إلى ناقة كوماء . فأبى أن يقبلها ; فقال : إني أحب أن تأخذ خير إبلي فأبى أن يقبلها فخطم له أخرى دونها فقبلها ، وقال : إني لآخذها وأخاف أن يجد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عمدت إلى رجل فتخيرت عليه إبله " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن طاوس : أخبرت أنك تقول : قال أبو عبد الرحمن - يعني أباه - إذا لم تجدوا السن فقيمتها ؟ قال : ما قلته قط قال ابن جريج : وقال لي عطاء : لا يخرج في الصدقة صغير ولا ذكر ولا ذات عوار ولا هرمة ؟ ومن طريق أبي عبيد عن جرير عن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال : لا يؤخذ في الصدقة ذكر مكان أنثى إلا ابن لبون مكان ابنة مخاض قال علي : ومن ذبح أو نحر ما يجب عليه في الصدقة ثم أعطاه مذكى لم يجز عنه ; لأن الواجب عليه إعطاؤه حيا ولا يقع على المذكي اسم شاة مطلقة ولا اسم بقرة مطلقة ، ولا اسم بنت مخاض مطلقة ، وقد وجب لأهل الصدقة حيا ، ولا يجوز له ذبح ما وجب لغيره ؟ فإذا قبضه أهله أو المصدق فقد أجزأ ، وجاز للمصدق حينئذ بيعه ، إن رأى ذلك حظا لأهل الصدقة ; لأنه ناظر لهم وليسوا قوما بأعيانهم ، فيجوز حكمهم فيه ، أو إبراؤهم منه قبل قبضهم له - وبالله تعالى نتأيد .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية