الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 475 ] 386

ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة

ذكر وفاة العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم وما كان من الحروب إلى أن استقر أمره

في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزار بن المعز أبي تميم معد العلوي ، صاحب مصر ، لليلتين بقيتا من رمضان ، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف ، بمدينة بلبيس ، وكان برز إليها لغزو الروم ، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج ، فاتصلت به إلى أن مات .

وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا ، ومولده بالمهدية من إفريقية .

وكان أسمر طويلا ، أصهب الشعر ، عريض المنكبين ، عارفا بالخيل والجوهر ، قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته ، واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا ، فاعتز بهما النصارى واليهود ، وآذوا المسلمين ، فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس ، فيها : بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس ، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي ، وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز ، والرقعة بيدها ، فلما رآها أمر بأخذها ، فلما ( قرأ ما فيها ) ، [ ص: 476 ] ورأى الصورة من قراطيس ، علم ما أريد بذلك ، فقبض عليهما ، وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار ، ومن اليهودي شيئا كثيرا .

وكان يحب العفو ويستعمله ، فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن بن بشر الدمشقي ، وكان كثير الهجاء ، فهجا يعقوب بن كلس وزير العزيز وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبد الله الحسين القيرواني ، فقال :

قل لأبي نصر صاحب القصر والمتأتي لنقض ذا الأمر     انقض عرى الملك للوزير تفز
منه بحسن الثناء والذكر     وأعط ، وامنع ، ولا تخف أحدا
فصاحب القصر ليس في القصر     وليس يدري ماذا يراد به
وهو إذا ما درى ، فما يدري



فشكاه ابن كلس إلى العزيز ، وأنشده الشعر فقال له : هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه . ثم قال هذا الشاعر أيضا وعرض بالفضل القائد :

تنصر ، فالتنصر دين حق     عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا     وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب ، وهذا     العزيز ابن ، وروح القدس فضل



فشكاه أيضا إلى العزيز ، فامتعض منه إلا أنه قال : اعف عنه فعفا عنه .

ثم دخل الوزير على العزيز ، فقال : لم يبق للعفو عن هذا معنى ، وفيه غض من السياسة ، ونقض لهيبة الملك ، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك ، وسبك بقوله :

زبارجي نديم وكلسي وزير     نعم على قدر الكلب يصلح الساجور


فغضب العزيز ، وأمر بالقبض عليه ، فقبض عليه ( لوقته ، ثم بدا للعزيز إطلاقه ) ، فأرسل إليه يستدعيه ، وكان للوزير عين في القصر ، فأخبره بذلك فأمر بقتله فقتل .

[ ص: 477 ] فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعا ، فعاد إليه فأخبره ، فاغتم له .

ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور ، ولقب الحاكم بأمر الله ، بعهد من أبيه ، فولي وعمره إحدى عشرة سنة ( وستة أشهر ) ، وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم ، وكان يتولى أمر داره ، وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم ، فقام بأمره ، وبايع له ، وأخذ له البيعة على الناس ، وتقدم الحسن بن عمار ، شيخ كتامة وسيدها ، وحكم في دولته ، واستولى عليها ، وتلقب بأمين الدولة ، هو أول من تلقب في دولةالعلويين المصريين ، فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم ، وقالوا : لا حاجة [ بنا ] إلى من يتعبدنا ، فلم يفعل احتقارا له ، واستصغارا لسنه .

وانبسطت كتامة في البلاد ، وحكموا فيها ، ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم ، وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه ، واتفق معه شكر خادم عضد الدولة ، وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر ، فلما اتفقا ، وصارت كلمتهما واحدة ، كتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما ( يتم عليه ) من ابن عمار ، فتجهز وسار من دمشق نحو مصر ، فوصل الخبر إلى ابن عمار ، فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم ، وندب العساكر إلى قتاله ، وسير إليه جيشا كثيرا ، وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي ، فساروا إليه فلقوه بعسقلان ، فانهزم منجوتكين وأصحابه ، وقتل منهم ألفا رجل ، وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر ، فأبقى عليه ابن عمار ، وأطلقه استمالة للمشارقة بذلك .

واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي ، واسمه سليمان بن جعفر ، فسار إلى طبرية ، فاستعمل على دمشق أخاه عليا ، فامتنع أهلها عليه ، فكاتبهم أبو تميم [ ص: 478 ] يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة ، واعتذروا من فعل سفهائهم ، وخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى معسكره .

وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم ، وأطلق المحبسين ونظر في أمر الساحل ، واستعمل أخاه عليا على طرابلس ، وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي ، فمضى إلى مصر ، واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار ، فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم ، فوضع المشارقة على الفتك بمن بقي بمصر منهم ، وبابن عمار معهم .

فبلغ ذلك ابن عمار ، فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك ، فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين ، وثارت الفتنة ، واجتمعت المشارقة ، ففرق فيهم المال ، وواقعوا ابن عمار ومن معه ، فانهزم واختفى .

فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم ، وأجلسه ، وجدد له البيعة ، وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم ، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه ، فخرج هاربا ، وقتلوا من كان عنده من كتامة ، وعادت الفتنة بدمشق ، واستولى الأحداث .

ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره ، وأجراه على إقطاعه ، وأمره بإغلاق بابه .

وعصى أهل صور ، وأمروا عليهم رجلا ملاحا يعرف بعلاقة ، وعصى أيضا المفرج بن دغفل بن الجراح ، ونزل على الرملة وعاث في البلاد .

[ ص: 479 ] واتفق أن الدوقس ، صاحب الروم ، نزل على حصن أفامية ، فأخرج أرجوان جيش ابن الصمصامة في عسكر ضخم ، فسار حتى نزل بالرملة ، فأطاعه واليها ، وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه ، وسير عسكرا إلى صور ، وعليهم أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان ، فغزاها برا وبحرا . فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال ، فالتقوا بمراكب المسلمين على صور فاقتتلوا ، وظفر المسلمون ، وانهزم الروم ، وقتل منهم جمع ، فلما انهزموا انخذل أهل صور ، وضعفت نفوسهم ، فملك البلد أبو عبد الله بن حمدان ، ونهبه ، وأخذت الأموال ، وقتل كثير من جنده ، وكان أول فتح كان على يد أرجوان ، وأخذ علاقة أسيرا فسيره إلى مصر ، فسلخ وصلب بها ، وأقام بصور ، وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج بن دغفل ، فهرب من بين يديه ، ( وأرسل يطلب العفو فأمنه .

وسار جيش أيضا إلى عسكر الروم ) ، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين ، فأحسن إلى رؤساء الأحداث ، وأطلق المؤن ، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها ، فاطمأنوا إليه .

وسار إلى أفامية ، فصاف الروم عندها ، فانهزم هو وأصحابه ، ما عدا بشارة الإخشيدي ، فإنه ثبت في خمسمائة فارس . ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه ، والدوقس واقف على رايته ، وبين يديه ولده وعدة غلمان ، فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك ، من أصحاب بشارة ، ومعه خشت ، فظنه الدوقس مستأمنا ، فلم [ ص: 480 ] يحترز منه ، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله ، فصاح المسلمون : قتل عدو الله ! وعادوا ونزل النصر عليهم ، فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة .

وسار جيش إلى باب أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق ، وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها ، وكان الزمان شتاء ، فسأله أهل دمشق ليدخل البلد ، فلم يفعل ، ونزل ببيت لهيا ، وأحسن السيرة في أهل دمشق ، واستخص رؤساء الأحداث ، واستحجب جماعة منهم ، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجئ معهم من أصحابهم ، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه ، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن ( يحضروا إلى ) حجرة له يغسلون أيديهم فيها ، فعبر على ذلك برهة من الزمان ، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث ، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم ، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم ، ويضعوا السيف في أصحابهم ، فلما كان الغد حضروا الطعام ، وقام الرؤساء إلى الحجرة ، فأغلقت الأبواب عليهم ، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل ، ودخل دمشق فطافها ، فاستغاث الناس وسألوه العفو وعفا عنهم ، وأحضر أشراف أهلها ، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم ، وسير الأشراف إلى مصر ، وأخذ أموالهم ونعمهم ، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات .

وولي بعده ابنه محمد ، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر . ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم وهادنه عشر سنين ، واستقامت الأمور على يد أرجوان . وسير أيضا جيشا إلى برقة ، وطرابلس الغرب ففتحها ، واستعمل عليها أنسا الصقلبي ونصح الحاكم ، وبالغ في ذلك ، ولازم خدمته فثقل مكانه على الحاكم ، فقتله سنة تسع وثمانين [ وثلاثمائة ] .

[ ص: 481 ] وكان خصيا أبيض ، وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه ( فهد بن ) إبراهيم ، فاستوزره الحاكم ، ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان ، ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار ، المقدم ذكره ، ثم قتل الحسين بن جوهر ، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم . ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب ، وحصرها ، وسير معه العساكر الكثيرة ، فسار عنها ، فخافه حسان بن المفرج الطائي ، فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده ، وأوقعا به وبمن معه ، وأسراه وقتلاه ، وقتل من الفريقين قتلى كثير ، وحصرا الرملة ، ونهبا النواحي ، وكثر جمعهما ، وملكا الرملة وما والاها ، فعظم ذلك على الحاكم ، وأرسل يعاتبهما ، وسبق السيف العذل ، فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني ، أمير مكة ، وخاطباه بأمير المؤمنين ، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة ، فحضر ، واستناب بمكة ، وخوطب بالخلافة .

ثم إن الحاكم راسل حسانا وأباه ، وضمن لهما الأقطاع الكثيرة والعطاء الجزيل ، واستمالهما ، فعدلا عن أبي الفتوح ، ورداه إلى مكة ، وعادا إلى طاعة الحاكم .

ثم إن الحاكم جهز عسكرا إلى الشام ، واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح ، فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن المفرج وعشيرته عن تلك الأرض ، وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشران ، واستولى على أمواله وذخائره ، وسار إلى دمشق واليا عليها ، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة .

[ ص: 482 ] وأما حسان فإنه بقي شريدا نحو سنتين ، ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه ، فسار حسان إليه بمصر ، فأكرمه وأحسن إليه ، وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموما ، وضع الحاكم عليه من سمه ، فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية