الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] باب [ ص: 4 ] إن أتلف [ ص: 5 ] مكلف ، وإن رق ، غير حربي ، ولا زائد حرية أو إسلام حين القتل ، إلا لغيلة . [ ص: 6 - 7 ] معصوما للتلف والإصابة بإيمان أو أمان . [ ص: 8 ] كالقاتل من غير المستحق ، وأدب ، كمرتد ، وزان أحصن ، ويد سارق ; [ ص: 9 ] فالقود عينا ، [ ص: 10 ] ولو قال : إن قتلتني أبرأتك

التالي السابق


وبدأ المصنف بالكلام على الأول وأركانه ثلاثة القاتل ، والمقتول والقتل وبدأ بالكلام على القاتل فقال ( إن أتلف ) ولم يقل قتل لأن الإتلاف يشمل المباشرة والتسبب والقتل يتبادر منه خصوص المباشرة ، والمراد الأول قاله الحط وفيه نظر ، فإن المتبادر من [ ص: 5 ] الإتلاف المباشرة أيضا شخص ( مكلف ) بضم الميم وفتح الكاف واللام مثقلة ، أي ملزم بما فيه كلفة وهو البالغ العاقل فلا يقتص من صبي ولا مجنون وعمدهما كخطئهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم { رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ والغلام حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق } ، رواه أبو داود وغيره بروايات متعددة ، والمرفوع إنما هو الوجوب الذي هو من خطاب التكليف .

وأما الضمان فهو من خطاب الوضع الذي يتعلق بغير المكلف أيضا إن كان المكلف حرا ، بل ( وإن رق ) بضم الراء وشد القاف ، أي كان رقيقا قنا أو ذا شائبة فيقتل بمثله وبالحر إن شاء الولي ( غير حربي ) بأن كان مسلما أو ذميا ، فإن كان حربيا فلا يقتص منه ولو أسلم بعد جنايته ( و ) غير ( زائد حرية ) على المقتول بأن تساويا في الحرية أو الرقية أو زاد المقتول على القاتل بالحرية فيقتل الرق بالحر إن شاء الولي ، فإن زاد القاتل على المقتول بالحرية فلا يقتل الحر بالرق .

( أو ) غير زائد ( إسلام ) بأن تساويا في الإسلام أو الكفر أو زاد المقتول بالإسلام فيقتل الكافر بالمسلم ولو كان الكافر حرا أو المسلم رقيقا ، فإن زاد القاتل على المقتول بالإسلام فلا يقتل المسلم بالكافر ولو كان حرا وقاتله المسلم رقيقا ويعتبر عدم زيادة القاتل بحرية أو إسلام ( حين القتل ) فإن قتل رقيق رقيقا أو كافر ذمي مثله ثم تحرر القاتل أو أسلم فإنه يقتص منه لأنه غير زائد حين القتل ، ولا يقتص من القاتل الزائد حين القتل بحرية أو إسلام ( إلا ) القاتل ( لغيلة ) بكسر الغين المعجمة ، أي أخذ مال فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر لكن ليس قصاصا ، بل لدفع فساد كقتل المحارب لأنه في معناه . ولذا قال الإمام مالك رضي الله عنه لا عفو فيه ولو قطع يدا أو رجلا فحكمه حكم المحارب ولو صالح ولي الدم بالدية رد صلحه وحكمه للإمام في التوضيح حقيقة الغيلة خدعه وإدخاله موضعا وقتله لأخذ ماله . [ ص: 6 ] ابن عرفة الباجي عن ابن القاسم قتل الغيلة حرابة وهو قتل الرجل خفية لأخذ ماله . ابن الفاكهاني أهل اللغة قتل الغيلة أن يخدعه ويذهب به إلى موضع خفية ، فإذا صار فيه قتله فيقتل به بلا عفو . بعض أصحابنا بشرط كون قتله عن مال لا عن ثائرة أي عداوة فيجوز العفو عنه لأنه ليس من الحرابة . ا هـ . ونقل الباجي مثله عن العتبية والموازية عياض أي اغتاله لأخذ ماله ، ولو كان لثائرة ففيه القصاص والعفو فيه جائز قاله ابن أبي زمنين وهو صحيح جار على الأصول لأن هذا غير محارب ، وإنما يكون له حكم المحارب إذا أخذ المال أو فعل ذلك لأجل أخذ المال ، ونقله أبو الحسن . ابن رشد قتل الغيلة هو القتل على مال . ا هـ . والغيلة في الأطراف كالغيلة في النفس فلا قصاص فيها ، والحكم للإمام ، إلا أن يتوب قبل القدرة عليه ففيه القصاص قاله في المدونة والمرأة كالرجل في الغيلة قاله أبو الحسن .

( تنبيه )

طفي قوله حين القتل الصواب إسقاطه كما فعل ابن الحاجب لاقتضائه أنه لا تشترط المساواة إلا حين القتل وليس كذلك ، بل من حين الرمي إلى حصول القتل ، إذ المعتبر فيه المساواة في الحالين أو يقول إلى حين القتل بالغاية كما فعل فيما بعد ، وقول عج لو رماه فجرحه ثم أسلم بعد جرحه ثم نزى الجرح فمات فإنه يقتل به لأنه مكافئ له حين الموت وحين السبب الذي نشأ عنه الموت وهو الجرح وإن كان غير مكافئ عند الرمي لأنه لا تعتبر المساواة عنده لما علمت أن المعتبر هو السبب القريب للموت غير ظاهر .

ابن عرفة الشيخ ابن سحنون ابن القاسم إن أسلم نصراني بعد أن خرج فمات ففيه دية حر مسلم في مال الجاني حالة أشهب إنما عليه دية نصراني إنما النظر لوقت الضرب لا الموت . وفي الجواهر ابن سحنون أصحابنا في مسلم قطع يد نصراني ثم أسلم ثم مات أنه لا قود على المسلم ، فإن شاء أولياؤه أخذوا دية يد نصراني ، وإن أحبوا أقسموا ولهم دية مسلم في مال الجاني حالة عند ابن القاسم وسحنون . وقال أشهب دية نصراني ، وقوله [ ص: 7 ] لأنه لا تعتبر المساواة عنده إلخ ، فيه نظر ، وكاد أن يخرج به عن كلام أهل المذهب ا هـ كلام طفي . البناني وسبقه إلى ذلك الشيخ أحمد بابا . وفي ضيح عند قول ابن الحاجب فأما القصاص فبالحين معا ، أي فيشترط دوام التكافؤ من حصول السبب إلى حصول المسبب اتفاقا . أقول إنما يتجه لو عبر المصنف بالموت بدل القتل أما القتل فيعم السبب ومسببه فقد أفادت عبارته اشتراطهما حالهما معا ، إذ الجرح وحده لا يسمى قتلا وكذا الموت وحده والله أعلم

ومفعول أتلف قوله شخصا ( معصوما ) أي محرما قتله وهو الركن الثاني فلا يقتص ممن قتل غير معصوم كحربي ومرتد وقاتل بالنسبة لولي الدم وقاطع طريق وزان محصن ، ويشترط دوام عصمته من الجرح ( للتلف ) أي الموت في القصاص للنفس ( و ) من ( ا ) الرمي ل ( لإصابة ) في القصاص للجرح ، فإن جرح أو رمى حر مسلم مثله وارتد المجروح أو المرمي قبل تلفه أو إصابته فلا يقتص من جارحه أو راميه لعدم استمرار عصمته لتلفه وإصابته . طفي كأنه يحوم على قول الجواهر فصل في تغير الحال بين الرمي والجرح وبين الجرح والموت . وقول ابن الحاجب فلو زال بين حصول الموجب ووصول الأثر كعتق أحدهما أو إسلامه بعد الرمي ، وقبل الإصابة أو بعد الجرح ، وقبل الموت ، فقال ابن القاسم المعتبر في الضمان حال الإصابة وحال الموت . وقال أشهب وسحنون حال الرمي ورجع سحنون فقوله للتلف ، أي لا حين الجرح فقط . وقوله والإصابة أي لا حين الرمي فقط ، والكلام كله في قتل النفس وسيأتي الكلام على الجرح فلا يرد قول من قال للتلف في النفس والإصابة في الجرح ، ولو أسقط قوله " والإصابة " أسلم من التكرار مع قوله والجرح كالنفس إلخ سرى له ، هذا من عدم معرفة مطارح كلام الأئمة . البناني ونحوه نقل بعض الشيوخ عن تقرير المسناوي معترضا به ما قرره " ز " تبعا ل لغ والعصمة .

( بإيمان ) أي بما يجب لله تعالى وما يستحيل عليه تعالى وما يجوز في حقه تعالى ، وبمثل ذلك لرسله عليهم الصلاة والسلام والتزام دعائم الإسلام ( أو ) ب ( أمان ) أي تأمين من السلطان أو غيره من المسلمين أو بالتزام الجزية والدخول في حماية الإسلام ، وسكت عن [ ص: 8 ] هذا لعلمه بالأولى من قوله أو أمان ومثل للمعصوم فقال ( ك ) الشخص ( القاتل ) فإنه معصوم ( من غير ) الشخص ( المستحق ) لقتله وإن لم يكن معصوما من المستحق ، ولكنه لا يقتله إلا بإذن الإمام ، فإن قتله بغير إذنه ( أدب ) بضم فكسر مثقلا المستحق لافتياته على الإمام . وشبه في التأديب فقال ( ك ) قاتل شخص ( مرتد ) طفي حصل ابن شاس وابن الحاجب في قتله ثلاثة أقوال ، ونص الأول ودية المرتد في قتله دية مجوسي في العمد والخطأ في نفسه ، وفي جراحه رجع للإسلام أو قتل على ردته ذكره ابن القاسم وأصبغ . وروى سحنون عن أشهب أن عقله عقل الدين الذي ارتد إليه ، وروي عنه أيضا لا شيء على قاتله لأنه مباح الدم . واقتصر ابن شاس في أول الجراح على الثالث فقال والمرتد .

قال سحنون لا قصاص ولا دية على قاتله إلا الأدب في افتياته على الإمام ، وتبعه ابن الحاجب ، واقتصر المصنف في الديات على الدية كالمجوسي ، لأنه قول ابن القاسم . وأما هنا فسكت فلك أن تقرره بالقول الثالث ، لأن الغالب من المصنف النسج على منوال ابن شاس وابن الحاجب ، ويدل عليه قرنه بالزاني المحصن ويد السارق أو تقول لا قصاص ، ولا يلزم منه نفي الدية ، وعليه قرره الحط . البناني اختلف فيه هل فيه دية فذهب ابن القاسم إلى أن فيه دية المجوسي ثلث خمس دية الحر المسلم ، وعلى هذا اقتصر المصنف في الديات . وقيل لا شيء على قاتله إلا الأدب ، وعليه اقتصر ابن شاس وتبعه ابن الحاجب ، وعلى الأول يحمل كلام المصنف هنا لأنه الآتي له في الديات

( و ) كقاتل ( زان أحصن ) بغير إذن الإمام فلا يقتص منه له لأنه غير معصوم ، ويؤدب قاتله لتعديه على الإمام ، ومفهوم أحصن أن قاتل الزاني البكر يقتل به وهو كذلك لأنه معصوم ( و ) ك ( قاطع يد ) شخص سارق بغير إذن الإمام فلا يقتص منه ويؤدب لذلك . الحط وكذا قاتل المحارب والزنديق . ابن عرفة محمد لا شيء على من قتل زنديقا . اللخمي وكذا الزاني المحصن والمحارب ، ولا دية لهم إن قتلوا خطأ . وفي الموازية [ ص: 9 ] من قطع يد سارق فلا دية له ، وفي موضع آخر له ديتها فعليه تجب الدية في هذين إن قتلا خطأ ، وإن قطع لهما عضو فلهما القصاص في العمد والدية في الخطأ لأن الحد إنما وجب في النفس لا في العضو .

الشيخ عيسى من اغتاظ من ذمي شتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ، فإن كان شتما يوجب قتله وثبت ذلك فلا شيء عليه ، وإن لم يثبت ذلك فعليه ديته وضرب مائة وسجن عاما . وفي التوضيح نص على نفي القصاص عن قاتل المرتد ولو نصرانيا . ا هـ . ولا معارضة بين ما هنا وبين قوله في الديات أن دية المرتد كدية المجوسي لأنه إنما نفى القصاص هنا ، والكلام هناك في الدية ، ونفي أحدهما لا يستلزم نفي الآخر ، وأما الزاني المحصن فلا دية له ، والفرق بينهما أن المرتد تجب استتابته على المذهب ، فكأن قاتله قتل كافرا محرم القتل بخلاف الزاني المحصن ا هـ .

( تنبيهان )

الأول : ابن عبد السلام ينبغي أن يختلف مقدار أدبهم ، فمن طلب الستر عليه كالزاني المحصن فالجرأة على الإمام بقتله أشد وكفر الزندقة أشد من كفر الارتداد ، والله أعلم .

الثاني : أبو الحسن قالوا هذا إذا كان هناك من ينصفه ويمكنه من حقه . أبو عمران الذي قتل وليه رجل ولا يمكن من أخذ حقه عند السلطان فيقتل الولي قاتل وليه غيلة أو باحتيال ، فإنه لا أدب ولا شيء عليه لأنه إذا لم يكن سلطان ينصفه فله أخذ حقه بنفسه . وجواب إن أتلف مكلف معصوما ( فالقود ) أي القصاص لأنهم كانوا يقودون الجاني إلى أولياء المقتول تبريا من شره ( عينا ) أي متعينا للولي إن شاء أخذ حقه عند الإمام مالك وابن القاسم وهو المشهور ، واختاره ابن رشد وعفوه أولى وأكمل ، وروى أشهب تخييره إن شاء أخذ حقه بين القود والعفو على الدية واختاره اللخمي وجماعة من المتأخرين لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم { من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يؤدي ، وإما أن [ ص: 10 ] يقاد } ، وعلى قول أشهب إن اختار الولي الدية فإن القاتل يجبر عليها إن كان مليئا . ابن يونس الإمام مالك رضي الله تعالى عنه قاتل العمد يطلب الأولياء الدية منه فيأبى إلا قتله فليس لهم إلا قتله أو العفو عنه ، قال الله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } ، وقال أشهب ليس له أن يأبى ويجبر على الدية إن كان مليئا لأنه في قتل نفسه ليترك ماله لغيره مضار . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه جعل الولي إن أحب قتل وإن أحب أخذ الدية } وقاله ابن المسيب في التوضيح قال جماعة الخلاف إنما هو في النفس ، وأما جرح العمد فيوافق أشهب فيه المشهور ، وروي عن ابن عبد الحكم التخيير في جرح العمد كالنفس .

( تنبيه )

استثنى من هذا جرح عبد أو قتله مثله ، فإن لسيد المجني عليه القصاص أو أخذ الجاني ، فإن اقتص فلا إشكال ، وإن أخذ الجاني خير سيده في فدائه بقيمة المجني عليه وإسلامه . وفي الجرح يخير بين إسلامه وفدائه بأرش الجرح إن كان له أرش مسمى ، وإلا فإن حصل به عيب خير بين إسلامه وفدائه بأرش العيب ، وإن لم يحصل به عيب فليس فيه إلا القصاص إن كان المجني عليه عبدا وإن كان حرا فلا شيء فيه إلا الأدب .

وإن أتلف مكلف غير حربي ولا زائد حرية ولا إسلام معصوما تعين القود إن لم يقل المجني عليه للجاني إن قتلتني أبرأتك ، بل ( ولو قال ) المجني عليه للجاني ( إن قتلتني أبرأتك ) فقتله ، فإنه يقتل به لعفوه عن شيء لم يجب له ، وإنما يجب لأوليائه ولا يشبه من أنفذ مقتله وأدرك حيا فقال أشهدكم أني عفوت عن قاتلي . وقال سحنون لا شيء عليه والأظهر سقوط القتل ولزوم الدية في مال القاتل لشبهة العفو . ابن الحاجب لو قال للقاتل إن قتلتني فقد وهبت لك دمي فقولان . قال ابن القاسم أحسنهما أن يقتل بخلاف عفوه بعد علمه أنه قتله ، فلو أذن له في قطع يده عوقب ، ولا قصاص الموضح الذي نسبه المصنف لابن القاسم ، ذكر في الجواهر أن أبا زيد رواه عن ابن القاسم وهو [ ص: 11 ]

في العتبية لسحنون ، ثم قال وزاد في البيان ثالثا بنفي القصاص لشبهة العفو والدية في مال القاتل ، قال وهو أظهر الأقوال ا هـ .

ابن عرفة الصقلي روى ابن سحنون عنه من قال لرجل اقتلني ولك ألف درهم فقتله فلا قود عليه ويضرب مائة ويحبس عاما ، ولا جعل له . وقال يحيى بن عمر للأولياء قتله ولو قال له اقتل عبدي ولك كذا أو بغير شيء فقتله ضرب مائة وحبس ، وكذا السيد يضرب ويحبس ، واختلف هل له على القاتل قيمة العبد أم لا ، والصواب لا قيمة له كقوله أحرق ثوبي ففعل فلا يغرم . الشيخ روى ابن عبدوس من قال لرجل اقطع يدي أو يد عبدي عوقب المأمور ولا غرم عليه في الحر والعبد . ابن حبيب عن أصبغ يغرم قيمة العبد لحرمة القتل كما تلزمه دية الحر إذا قتله بإذن وليه ا هـ




الخدمات العلمية