الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1560 228 - حدثنا أحمد بن عيسى قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي، أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك، ثم حج عثمان رضي الله عنه، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع ابن الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها عمرة، وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه، ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به، ثم لا يحلان، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "إن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ" وقد مر الحديث في "باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة" فإنه أخرجه هناك، عن أصبغ، عن ابن وهب المصري إلى آخره مختصرا. وأخرجه هنا بأتم منه، عن أحمد بن عيسى أبي عبد الله التستري، مصري الأصل، وكان يتجر إلى تستر، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، يروي عن عبد الله بن وهب المصري.

                                                                                                                                                                                  قوله "سأل عروة بن الزبير فقال" فيه حذف، تقديره: سأل عروة بن الزبير كيف بلغه خبر حج النبي صلى الله عليه وسلم "فقال" أي عروة: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حين قدم" أي مكة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم لم تكن عمرة" بالرفع والنصب على تقدير كون "لم تكن" تامة أو ناقصة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم عمر" أي: ثم حج عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك، أي مثل ما حج أبو بكر رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فرأيته أول شيء" لفظ "أول" بالنصب لأنه بدل عن الضمير.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الطواف" بالنصب أيضا لأنه مفعول ثان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم معاوية" أي: ثم حج معاوية بن أبي سفيان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "مع أبي الزبير" ليس بكنية، بل قوله "الزبير" بالجر بدل من قوله: "أبي" لأن عروة يقول: "ثم حججت مع أبي" هو الزبير بن العوام.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم لم ينقضها عمرة" أي: ثم لم ينقض حجتها عمرة، أي: لم يفسخها إلى العمرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فلا يسألونه" الهمزة فيه مقدرة، أي: أفلا يسألون عبد الله بن عمر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا أحد" عطف على فاعل "لم ينقضها" أي: لم ينقض ابن عمر حجته ولا أحد من السلف الماضين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما كانوا يبدؤون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف" قال ابن بطال: لا بد من زيادة لفظ "أول" بعد لفظ "أقدامهم".

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: الكلام صحيح بدون زيادة; إذ معناه: ما كان أحد منهم يبدأ بشيء آخر حين يضع قدمه في المسجد لأجل الطواف، أي لا يصلون تحية المسجد ولا يشتغلون بغير الطواف، وصوب بعضهم كلام ابن بطال؛ لأن جعل "من" بمعنى "من أجل" قليل، وأيضا فقد ثبت [ ص: 285 ] لفظ "أول" في بعض الروايات.

                                                                                                                                                                                  قلت: وقوله: "لأن جعل من بمعنى من أجل قليل" غير مسلم، بل هو كثير في الكلام؛ لأن أحد معاني من للتعليل كما عرف في موضعه.

                                                                                                                                                                                  وقوله: "وأيضا فقد ثبت لفظ أول في بعض الروايات" مجرد دعوى فلا تقبل إلا ببيان.

                                                                                                                                                                                  وقوله: "حتى يضعوا" بكلمة حتى التي للغاية رواية الكشميهني، وفي رواية غيره "حين يضعون" ففي الأول حذفت النون من "يضعون" لأن أن الناصبة مقدرة بعد كلمة حتى، وعلامة النصب في الجمع سقوط النون، وسأل الكرماني في هذا الموضع بأن المفهوم من هذا التركيب أن السلف كانوا يبتدئون بالشيء الآخر إذ نفي النفي إثبات وهو نقيض المقصود، ثم أجاب بقوله: إن لفظ "ما كانوا" تأكيد للنفي السابق أو هو ابتداء الكلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أمي" هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما زوجة الزبير رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وأختها" أي أخت أمي وهي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فلما مسحوا الركن حلوا" معناه: طافوا وسعوا وحلقوا حلوا، وإنما حذفت هذه المقدرات للعلم بها.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: فإن قلت: هذا مناف لقوله: "إنهما لا يحلان" وما الفائدة في ذكره.

                                                                                                                                                                                  قلت: الأول في الحج والثاني في العمرة، وغرضه أنهم كانوا إذا أحرموا بالعمرة يحلون بعد الطواف؛ ليعلم أنهم إذا لم يحلوا بعده لم يكونوا معتمرين ولا فاسخين للحج إليها; وذلك لأن الطواف في الحج للقدوم وفي العمرة للركن.

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن الداودي قال: ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة، وما قبله من كلام عائشة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله: "ثم لم تكن عمرة" ومن قوله: "ثم حج أبو بكر" إلى آخره من كلام عروة.

                                                                                                                                                                                  قلت: على قول الداودي يكون الحديث كله متصلا، وعلى قول أبي عبد الملك يكون بعضه منقطعا; لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر بل أدرك عثمان رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): احتج به من يرى بوجوب الطهارة للطواف كالصلاة، ولا حجة لهم في ذلك; لأن قوله: "إنه توضأ" لا يدل على وجوب الطهارة قطعا؛ لاحتمال أن يكون وضوءه عليه الصلاة والسلام على وجه الاستحباب.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب التوضيح: الدليل على الوجوب أن الطواف مجمل في قوله تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق وفعله صلى الله عليه وسلم خرج مخرج البيان.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا نسلم أنه مجمل؛ إذ معناه الدوران حول البيت.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: قال صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة" قلت: التشبيه لا عموم له؛ ولهذا لا ركوع فيها ولا سجود، ولو كان حقيقة لكان احتاج إلى تحليل وتسليم، واحتج به أيضا من يرى أن الإفراد بالحج هو الأفضل ولا حجة لهم في ذلك؛ لوجود أحاديث كثيرة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في هذا الكتاب. والله أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية