الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        قد يكون أصل العمل مشروعا ، ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من [ ص: 446 ] باب الذرائع ، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره .

                        وبيانه : أن العمل يكون مندوبا إليه ـ مثلا ـ ، فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية ، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس ، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائما ، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم ، فهذا صحيح لا إشكال فيه ، وأصله ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت ، وقوله : أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة ، فاقتصر في الإظهار على المكتوبات ـ كما ترى ـ ، وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو ( في ) مسجد بيت المقدس ، حيث قالوا : إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث ، وجرى مجرى الفرائض في الإظهار السنن ؛ كالعيدين ، والخسوف ، والاستسقاء . . . . وشبه ذلك ، فبقي ما سوى ذلك حكمه الإخفاء ، ومن هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خف عليهم الاقتداء بالحديث وبفعله عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه القدوة والأسوة .

                        ومع ذلك ؛ فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائما أن يقام جماعة في المساجد ألبتة ، ما عدا رمضان ـ حسبما تقدم ـ ولا في البيوت دائما ، وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط ؛ كقيام ابن عباس رضي [ ص: 447 ] الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بات عند خالته ميمونة ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام : قوموا فلأصل لكم ، وما في الموطأ من صلاة يرفأ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الضحى .

                        فمن فعله في بيته وقتا ما ؛ فلا حرج ، ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور ، وإن كان الجواز قد وقع في " المدونة " مطلقا ، فما ذكره تقييد له ، وأظن ابن حبيب نقل [ ـه ] عن مالك مقيدا .

                        فإذا اجتمع في النافلة أن يلتزم السنن الرواتب إما دائما وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود ، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض ، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب ؛ فذلك ابتداع .

                        والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعا ، وإن أتى مطلقا من غير تلك التقييدات ، مشروعا في التقييد في المطلقات التي لم تثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع ، فكيف إذا عارضه الدليل ، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلا ؟ ! .

                        ووجه دخول الابتداع هنا : أن كل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات ؛ فهو سنة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعا ، [ ص: 448 ] ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة ، وهذا فساد عظيم ؛ لأن اعتقاد ما ليس بسنة سنة ، والعمل بها على حد العمل بالسنة ؛ نحو من تبديل الشريعة ؛ كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض ، أو بما ليس بفرض أنه فرض ، ثم عمل وفق اعتقاده ؛ فإنه فاسد ، فهب العمل في الأصل صحيحا ؛ فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملا من باب إفساد الأحكام الشرعية .

                        ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننا قصدا ؛ لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض ؛ كالأضحية وغيرها ؛ كما تقدم ذلك .

                        ولأجله أيضا نهى أكثرهم عن اتباع الآثار ؛ كما خرج الطحاوي وابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي ؛ قال :

                        " وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما انصرفنا إلى المدينة ؛ انصرفت معه ، فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : ألم تر كيف فعل ربك ، و لإيلاف قريش ، ثم رأى ناسا يذهبون مذهبا ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجدا هاهنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ؛ يتبعون آثار أنبيائهم ، فاتخذوها كنائس وبيعا ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فليصل فيها ، وإلا ؛ فلا يتعمدها .

                        وقال ابن وضاح : " سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس [ ص: 449 ] يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطعها ؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة .

                        قال ابن وضاح : " وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وحده " .

                        وقال : " وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس ، فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضا مسجد بيت المقدس ، فلم يعد فعل سفيان .

                        قال ابن وضاح : " فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى ؟ " .

                        وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير .

                        وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ما ليس بسنة ، أو يعد مشروعا ما ليس معروفا .

                        وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس ؛ خيفة أن يتخذ ذلك سنة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء ؛ خوفا من ذلك ، مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه ، ولكن ؛ لما خاف العلماء عاقبة ذلك ؛ تركوه .

                        وقال ابن كنانة وأشهب : " سمعنا مالكا يقول لما أتاه سعد بن أبي [ ص: 450 ] وقاص قال : وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل " .

                        وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة ، فقال : " أثبت ما في ذلك عندنا قباء ، إلا أن مالكا كان يكره مجيئها ، خوفا من أن يتخذ سنة " .

                        وقال سعيد بن حسان : " كنت أقرأ على ابن نافع ، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء ؛ قال لي : حرق عليه ، قلت : ولم ذلك يا أبا محمد ؟ قال : خوفا من أن يتخذ سنة " .

                        فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة ؛ لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن ؛ صارت من البدع بلا شك .

                        فإن قيل : كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية والظاهر منها أنها بدع حقيقية ؛ لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية ، إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه ، فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة ، واعتقدها عبادة ؛ فإنها بدعة من غير إشكال ، هذا إذا نظرنا إليها بمآلها ، وإذا نظرنا إليها أولا ؛ فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أصلا ؟ ! .

                        فالجواب : أن السؤال صحيح ؛ إلا أن لوضعها أولا نظرين :

                        أحدهما : من حيث هي مشروعة ، فلا كلام فيها .

                        والثاني : من حيث صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو [ ص: 451 ] للعمل بها على غير السنة ؛ فهي من هذا الوجه غير مشروعة ؛ لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف ، والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس ـ مثلاـ سببا لأن تتخذ سنة ، فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع ، فكان ابتداعا .

                        وهذا معنى كونها بدعة إضافية ، أما إذا استقر السبب ، وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة والعمل على وفقه ؛ فذلك بدعة حقيقية لا إضافية .

                        ولهذا الأصل أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام ، فلا معنى للتكرار .

                        وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعا بالإضافة ؛ فما ظنك بالبدع الحقيقية ؛ فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا ، لكن من جهتين ؟ !

                        فإذا بدعة " أصبح ولله الحمد " في نداء الصبح ظاهرة ، ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظبا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها ؛ كان تشريعا أولا يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة ، وهذا ابتداع ثان إضافي ، ثم إذا اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية ؛ صارت بدعة من ثلاثة أوجه .

                        ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت ، وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها ؛ فالأمر عليه أخف ، فيا لله ويا للمسلمين ! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه ؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية